تراجع، ترهّل، فشل، وربما موت سريري، في ظل طغيان وسائل إعلام جديدة، تواكب التطورات في كل ثانية، وفي أي بقعة من الأرض. هذا بعض ما يقال عن وسائل الإعلام الفلسطينية في الشتات، ما بعد سنة 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان. لجأت بعض تلك الوسائل، خلال السنوات الماضية، إلى تسريح بعض العاملين فيها، جرّاء الأزمات المالية المتتالية، فضلاً عن أن الحماية النقابية لهؤلاء غير متوفرة ولا سيما في الشتات. وبسبب كل هذا، يصف بعض الصحافيين الفلسطينيين ما يجري بـ«المجزرة» بحق الصحافي الفلسطيني والصحافة الفلسطينية.

الإعلام الفلسطيني... تاريخ ومستقبل
معظم الذين التقيتهم خلال البحث والإعداد لكتابة هذه المادة، يصفون مرحلة السبعينيات بالمرحلة الذهبية للصحافة الفلسطينية، لكنّ هذا الرفاه لم يدم. رئيس تحرير مجلة «الحرية» محمد السهلي يعتبر أن صحف المقاومة الفلسطينية الورقية في الشتات، لم تعد كما كانت في السبعينيات: «بعضها الغالب اختفى، وبعضها تقطّع إصداره، فيما واصل القليل جداً منها مسيرته وحافظ على إصداره الدوري، ولكل من هذه المصائر الثلاثة أسبابه المتمثلة في تقطّع إصداره، فيما واصل القليل جداً».
يبيّن السهلي أنه في السبعينيات، اجتمع عاملان دعما عمل الصحف والمراكز البحثية الفلسطينية؛ «العامل السياسي»، وتجلى في نهوض العمل الوطني الفلسطيني، وتبلور طابعه المؤسسي، وهذا انعكس إيجاباً على واقع هذه الصحف، في ظل التنافس المعهود ما بين الفصائل حول تظهير دور كل منها عبر لسان حاله «الصحيفة المركزية». بينما العامل الثاني، كان «الوفرة المالية»، التي مكّنت الكثير من هذه الصحف والمراكز من استقطاب صف واسع من الباحثين والكُتاب والصحافيين الفلسطينيين والعرب، وما زال العديد من أبرز الكتاب والصحافيين المرموقين يشيد حتى اليوم بتجربته فيها.
لاحقاً، لم يعد لا العامل السياسي ولا العامل المالي، مؤثريْن، مع تراجعهما، فلم تعد هذه الصحف مركز جذب واستقطاب، وبات معظم كادرها من داخل الفصيل أو من إطاره القريب. وأصبح الطابع الحزبي سائداً في منشوراتها.

أسباب موضوعية وذاتية
يعود السهلي بالذاكرة أيضاً إلى العاصمة اللبنانية، بيروت، حيث كانت مهد انطلاقة أبرز صحف المقاومة الفلسطينية، وفيها تأسّست مراكز بحث ودراسات متخصصة. لكنه يوضح، أن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، كانت له انعكاساته وتداعياته على واقع تلك الصحف والمجلات الصادرة في حينها عن الفصائل، أو حتى على مراكز البحث الفلسطينية، والعاملين فيها: «اتخذت بعض تلك الصحف، ومراكز البحث، من العاصمة القبرصية نيقوسيا، مقراً لمتابعة الصدور، بكل ما يعني ذلك من مصاعب مهنية، وتكاليف مالية باهظة».
وينوّه السهلي، في حديثه إلى «الأخبار»، بأن ظهور وتطور التكنولوجيا في العالم، وزيادة أعداد الصحف الإلكترونية، قلّلت من دور الصحف الورقية، كذلك، تلك الأساليب في النشر باتت الخيار المفضّل للكثير من الجهات الإعلامية والسياسية، لأسباب معروفة. ويضيف أن انتشار فيروس «كورونا» أثّر سلباً في واقع الصحف الورقية، عبر منع الطباعة في عدد واسع من البلدان، بينها معظم دول منطقتنا التي تعاني أزمات متعددة، وقد أغلقت صحف عريقة أبوابها لأسباب أغلبها نقص التمويل.
يرى السهلي أن الصحف الورقية عموماً وأصحابها غير مشدودين لفكرة تكيّفها مع واقع العجز المالي، عبر المحافظة على إصدارها بصفحات أقل وبشكل فني أبسط، وهنا هو ينوّه بتجربة مجلة «الحرية» التي «تابعت صدورها الأسبوعي خلال العقود الأخيرة، بصفحات أقل وبدون غلاف ملوّن، كما السابق، حرصاً على مواكبة التطورات الفلسطينية العاصفة، وتظهير الموقف الوطني المتمسك بانتزاع الحقوق الوطنية الفلسطينية، وكشف محاولات الالتفاف عليها».

تحديات كثيرة وصعوبات كبيرة
لم تخلُ تجربة الإعلام الفلسطيني، منذ نشأتها، من تحديات كبيرة، منذ تبلورها بشكل عام ورسمي بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1965. يرى رئيس تحرير مجلة «إلى الأمام» تحسين الحلبي، أن هذه المرحلة تطلبت من الإعلام الفلسطيني «صياغة الخطاب، والرسائل الإعلامية الموجهة للشعب الفلسطيني بشكل خاص في كل مكان بعد مرور 17 عاماً على نكبته، وذلك لتحقيق أهداف عدة، تمثلت في تأمين التفاف الشعب الفلسطيني حول المنظمة كممثل شرعي له، والمحافظة على هويته الوطنية، إضافة إلى تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني بوطنه وممتلكاته في فلسطين، وترسيخ الأمل والإيمان بالقدرة على استعادتها والعودة إليها». ويوضح أن من الأهداف أيضاً، تشجيع الفلسطينيين على «الانخراط في جيش التحرير الفلسطيني الذي أعلن عن البدء بتأسيسه سنة 1965، تأكيداً على التزام منظمة التحرير بالكفاح المسلح وتطبيقه بشكل عملي».
ويتابع الحلبي، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه بعد عدوان حزيران سنة 1967، واحتلال بقية فلسطين، ومناطق عربية جديدة، انخرط عدد من فصائل المقاومة الفلسطينية سنة 1969 في منظمة التحرير، وذلك تم «برعاية من الرئيس جمال عبد الناصر ودعوته لها، لقيادة هيئات المنظمة ومهامها، وفي ما بعد وجد كل فصيل شارك بقيادة هذه الهيئات أن الخطاب الإعلامي الموجه للشعب الفلسطيني، يضم نفس المتطلبات التي حددها لنفسه، ويحمل نفس الأهداف وعلى أرض الواقع». وذلك لم يمنع «أي فصيل من التركيز في خطابه الإعلامي ورسائله المعلنة، بهدف تأمين التفاف الشعب حوله، وانخراط شبابه فيه، وبهذا الشكل أصبح للمنظمة مجلتها ووسائلها الإعلامية تحت إدارة رئيس اللجنة التنفيذية الراحل ياسر عرفات، كما لكل فصيل مجلته ووكالته الإعلامية الخاصة به، وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى عدد من المظاهر، بينها تعدد أشكال ومضامين الرسائل الإعلامية الموجهة للشعب الفلسطيني بشكل خاص، وتلك الموجهة للساحة العربية والدولية بشكل عام».
بعد نهاية سنة 1982، باتت هناك فوضى بشكلٍ عام في الإعلام والأداء الإعلامي الفلسطيني


هذه الظاهرة، حسب الحلبي، «ولّدت في ما بعد، وتحديداً منذ سنة 1982، مضاعفات فادحة على وحدة الخطاب الإعلامي التي كانت تتراجع وتضعف، وتحمل السلبيات بعد كل تطور سياسي مرت به الساحة الفلسطينية، وكانت هذه السلبيات تعكس نفسها بشكل متصاعد على الحياة السياسية لمنظمة التحرير والساحة الشعبية والسياسية الفلسطينية».
يبدو أن غياب الآلية الديموقراطية التي يتعين عليها أن تكون العامل والرابط المستدام في حل الاختلافات السياسية والتوافق على حلولها المناسبة، هو الذي جعل الإعلام الفلسطيني يفقد متطلبات ضرورية كثيرة كانت تجب المحافظة عليها وتطوير آلياتها، وفق رئيس تحرير مجلة «إلى الأمام».

تعصّب فصائلي وإيديولوجي
يوافق الكاتب والمحلل السياسي علي بدوان، على بعض ما جاء من زملائه، فيرى أن «مُستجدات كبيرة طرأت بعد نهاية سنة 1982، على عموم الحالة الفلسطينية، وقد أصابت في جزء منها الإعلام والمؤسسات الإعلامية والثقافية الفلسطينية عموماً. بعد فقدان الحركة الوطنية الفلسطينية موقعاً هاماً، كان يوفر لها المجال لبناء إعلام ديموقراطي حر، مع ما كان يتضمنه من إصدار العدد الكبير من المجلات والمطبوعات الفلسطينية، التي باتت أعدادها القديمة مرجعاً هاماً في جوانب كثيرة من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة». ويلفت إلى أن تلك المجلات والمطبوعات استقطبت للنشر على صفحاتها «كبار الكتاب والمثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين والعرب، وحتى نتاجات كُتاب أمميين». ويشير إلى ازدهار دور النشر في تلك المرحلة بعاصمة الثقافة والحرية الإعلامية، ويعني بيروت، إضافة إلى دور النشر التي كانت تتبع لمؤسسات وطنية فلسطينية، «فازدهرت معها عملية إصدار الكتب والدراسات، وكتب الفنون والثقافة والآداب». لكنه يبيّن أنه بعد نهاية سنة 1982، باتت هناك فوضى بشكلٍ عام في الإعلام والأداء الإعلامي الفلسطيني، يعزوها إلى «تضارب المواقف، وحالة الانقسام، وتفاقم منطق العصبيات التنظيمية، ومحاولات الاستحواذ من قبل البعض، بالحضور الفصائلي على حساب الإعلام الوطني العام، حيث شكّل غياب الإعلام الوطني الموحد الذي يَخدِمُ الأهداف المتوخاة والمُبتعد عن خدمة الأهداف التنظيمية الخاصة لهذا الفصيل أو ذاك». ويؤكد بدوان أن حالة الترهل الإعلامي الفلسطيني التي سادت، أدّت إلى إعلام غير منتج، وساهم في ذلك وجود إعلاميين «لا يعرفون من الإعلام سوى القرار الذي أصدره مسؤول أو قيادي بنقله إلى العمل الإعلامي، وما يعني ذلك من عدم الفهم الحقيقي لرسالة الإعلام»: «أزمة صحافيين وكتاب، يحتاجون إلى درجة متقدمة من المهارات، ومن زيادة في المخزون المعرفي لديهم، كما في ضرورة تخليهم عن التعصب الفصائلي أو الإيديولوجي لصالح العمل العام».

الإعلام الفلسطيني... صورة للانقسام
ثمّة أسئلة تفرض نفسها في هذا الموضوع، منها، هل الإعلام الفلسطيني «غائب أم مغيّب؟»، وهل «سقطت حوامله التاريخية وسياقاته كانعكاس لحيوية المشهد الفلسطيني في عقود خلت؟»، وهل «هو أسير الواقع الفلسطيني، أي أنه صورة للانقسام الفلسطيني والتجاذبات البنيوية التي طاولت صناع القرار الفلسطيني؟». أسئلة يثيرها الناقد الفلسطيني أحمد علي هلال، وعلى هذا النحو يكمل: «يمكننا أن نتساءل أيضاً، هل هو جزء بمكوناته وأنساقه من أزمة الإعلام العربي، مع انحسار دور ما سمي بالنخب الفكرية والإعلامية لظروف مختلفة أيضاً؟». وهنا يشير، لـ«الأخبار»، إلى تداخل هذه العوامل لتشكل أبعاداً مركبة من الذاتي إلى الموضوعي، إلى خلخلة مفهوم الثقافة في الإعلام، ومفهوم الثقافة الإعلامية بفعل التجاذبات واشتباك السياسي بالمثقف، مضيفاً أن «هذه الحالة ستصبح استثناء في المشهد الإعلامي الفلسطيني، بفعل استحقاقات وتحديات باتت تستلزم تحديث العقل الإعلامي الفلسطيني وليس تشظيته». يرى هلال أن واحدة من المشكلات تكمن في «نمط إنتاجه للصورة ومستوياتها / صورة القضية الفلسطينية، بعيداً - مرة أخرى - عن الشعاراتية والخطابية، واختزال الإعلام بثقافة محدودة، لا تغادر الواجب، وهذه في قلب الإشكالية»، إشكالية يجدها «مركبة بامتياز تحتاج إلى وعي نقدي مضاعف، وإرادة حرة بصوغ مستقبل تصبح فيه الكلمة معادلة للرصاصة».

رؤية الإعلاميين الشباب
بعض التجارب الصحافية الفلسطينية الشابة، لها رؤيتها في مجرى الإعلام اليوم، وتنحاز بشكل أو بآخر، إلى النمط الجديد السائد في الوعي الإعلامي. الإعلامي منتصر عم علي، يرى أنه «لا يمكننا فصل السياسة عن الإعلام الذي يمثل السلطة الرابعة في الدول الديموقراطية، لما له من تأثير على الرأي العام»، وهنا يضع نصب عينيه تأثير الإعلام على الفلسطينيين كشعب وكصحافيين: «المتابع للأحداث يجزم يقيناً بأن القوى الدولية تستهدف الإعلاميين الفلسطينيين في سعي لتكميم أفواههم وكسر أقلامهم». ويوضح أسباب تراجع دور الإعلام الفلسطيني فيضعها في إطار «الوضع الاقتصادي المتردي لشريحة واسعة من الإعلاميين، وعدم وجود داعم رئيسي لهم، ما جعلهم ينشغلون بهموم الحياة، وبالتالي الابتعاد، عن دورهم الداعم للقضية الفلسطينية ونقل أحداث الواقع هناك». ويرى عم علي أن إغلاق عدد من المحطات والإذاعات الفلسطينية وتسريح العاملين فيها أديا إلى «خلق شعور لدى الكثيرين بعدم الوثوق في المؤسسات الإعلامية، بسبب عدم استقرار الدخل المالي لأسرهم، ما يجعلهم عرضة لمخاطر اقتصادية تؤثر سلباً في عائلاتهم».
المذيعة الشابة كوثر صالح، تضيف إلى أسباب عم علي، أسباباً أخرى للتراجع، منها «مساندة دول عظمى في العالم لإسرائيل، إضافة إلى تطبيع دول عربية. هذا كله أدى إلى تراجع دور الإعلامي الفلسطيني على الصعيدين الداخلي والدولي». «عندما تشير كل الأدلة والتقارير إلى استشهاد شيرين أبو عاقلة برصاص صهيوني، ويبقى الفاعل رهن حرية التصرف سيتراجع الإعلام. وعندما تتحد وسائل التواصل الاجتماعي تحت شعارات عالمية لمساندة الأسرى، وتبقى المنظمات العالمية والدولية عاجزة عن إرغام إسرائيل، سيتراجع الإعلام. وعندما يكون الانقسام في اللب الفلسطيني، وعندما لا يكون هناك اتفاق داخلي في الصلب الفلسطيني سيتشتت الإعلام».