بيت القصيد، هو بيت الوطن الذي تهجّر منه الفلسطينيون، والعودة إليه ليس إلا قافية، لا ينتهي رويهاً إلا عندما ترتوي الروح من ذكريات الطفولة التي لم تستطع إسرائيل محوها، مع كل ما أقدمت عليه من مجازر وجرائم على أرض الوطن وخارجه. ولأن المجرم يعود دائماً إلى مسرح الجريمة، فقد عادت إسرائيل مجدداً لمحاولة محو ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين من خلال ما ارتكبته من مجازر في مخيمات اللجوء والتي منها «هولوكوست» صبرا وشاتيلا، لكن في حضرة الموت لا تشبث إلا بصحة أسمائنا وهويتنا.في الذكرى الأربعين لمجزرة صبرا وشاتيلا كما كل عام، يتذكر اللبنانيون واللاجئون الفلسطينيون، التفنن في سفك الدماء والتعذيب والقتل، إذ لم ينسوا يوماً ما أقدم عليه العدو الإسرائيلي وعملائه في لبنان، ولم تغب يوماً عن ذاكرتهم صورة الشهداء المرميين على الطرقات والأشلاء التي تدمي العيون، حيث ما زالوا يتوارثون هذه الذاكرة من جيل إلى جيل.
ما زالت جدران المنازل في صبرا وشاتيلا تروي الألم والمعاناة، وتتحدث عن أصوات الصراخ والبكاء، وتشهد على اغتصاب النساء وقتل الأطفال والمدنيين، حتى احتضنت الأرض دماء الشهداء، واستضافتهم السماء كوطن حلموا به، قائلة «إن عدالتي أبقى من عدالة الأرض الزائفة».
وكما هي العادة في لبنان، لا ينال المجرمون عقابهم، وتطوى القضية كأن شيئاً لم يكن، في ظل غياب المساءلة والمحاسبة، وكذلك بالنسبة للمجتمع الدولي الذي يستنكر ويعرب عن قلقه، من دون أن يحرّك ساكناً، لانحيازه الدائم لإسرائيل على حساب دماء الشهداء والأبرياء من المدنيين.
أصدر وزير الداخلية والبلديات السابق نهاد المشنوق عام 2014، قراراً يقضي باسترجاع أرض المقبرة التي دفن فيها الشهداء إلى أصحابها و انتزاع ملكيتها من بلدية الغبيري


وقد أغلقت قضية مجزرة صبرا وشاتيلا في محكمة بلجيكا بعد تعديل القانون البلجيكي عام 2003، بسبب تعديل نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، لجهة عدم النظر في القضايا التي حدثت قبل عام 2002، وعدم الاكتراث إلى معاقبة المسؤولين الإسرائيليين والقيادات اللبنانية المشاركة في المجزرة، بعد تبادل الاتهامات في ما بينهم للتنصل من الجريمة. لكن أعيد فتح القضية مجدداً عام 2012، وهذه المرة ليست لصالح الضحية بل لصالح الجلاد، عندما أصدر وزير الداخلية والبلديات السابق نهاد المشنوق عام 2014، قراراً يقضي باسترجاع أرض المقبرة التي دفن فيها الشهداء إلى أصحابها و انتزاع ملكيتها من بلدية الغبيري، بموجب قرار صادر عن مجلس شورى الدولة.
يبقى شهداء صبرا وشاتيلا تحت رحمة «القانون الجلاد» ليجلدهم كل مرة، تارة عندما أغلق التحقيق في قضيتهم، وتارة عندما منع الفلسطيني من تملّك عقار صبرا وشاتيلا، تطبيقاً للقانون اللبناني 296/2001.
يحتج صاحب الأرض بأنه يمكن استصدار فتوى شرعية، تجيز نقل الجثث إلى مقبرة أخرى، ويمنع أي عملية تحسين للمقبرة، أو حتى تنظيفها، أو القيام بإنشاء مقام لتكريم أرواح الشهداء وجعل المقبرة رمزاً يدل على الجريمة، بهدف تكريم الضحايا في قبرهم، وجعلها مزاراً لكل من يريد أن يعرف المزيد عن جرائم إسرائيل في لبنان.
وتغيب هذه القضية عن جدول أعمال منظمة التحرير الفلسطينية التي لا يمكنها شراء العقار بذريعة أن القانون اللبناني يمنعها من التملك. وتغيب أيضاً عن أولويات بلدية الغبيري لتسوية هذا النزاع أو محاولة الشراء، بذريعة عدم توافر الأموال، فيبقى مصير الشهداء معلقاً للقدر.
نعم، إن مجزرة صبرا وشاتيلا هي «هولوكوست» بالفعل، هزّت الرأي العام العالمي والضمير الإنساني، عندما ذبح الشهداء من الوريد للوريد، وبقرت بطون الحوامل، وقلعت عيون الأطفال قبل ذبحهم بالسكين، إنها وصمة عار على جبين كل من شارك أو شاهد وظل صامتاً، أو دافع عن من ارتكبها، أو برر دوافعها. يمكن أن يكون الحياد في قضية صبرا وشاتيلا جريمة بحق الإنسانية، وهكذا تتجسد قضية المجزرة في حياة كل لاجئ فلسطيني، في عدم مساومته على حقوقه الإنسانية، المتمثلة بحقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس والعودة إلى دياره التي هجر منها، لأن صلابة الموقف هو انتقام يقتل بنفس سهولة الفأس الذي قطع رؤوس الشهداء المدنيين في صبرا وشاتيلا.

* مستشار قانوني في المحكمة الجنائية الدولية