اليوم، وبعد عقود على تلك الملحمة، كان من الطبيعي أن تتطور صورة حنظلة بالشكل، من دون أن يعني ذلك البتة تبدّلاً في المضمون الذي ولدت من أجله شخصية ذلك الصبي. الظروف غير الطبيعية ما زالت تتحكم بـ«حنظلة» الإنسان، الذي لا يزال مواطناً بلا وطن، وأرضه محتلة، أيَّ قطر من أقطار البسيطة نزل. حنظلة يمثل كل لاجئ فلسطيني، في داخله ندبة من مأساة طويلة، ليس على وجه الأرض مثيل لها، إذ لا يوجد شعب يحُول احتلال دونه ودون أرضه، إلا الشعب الفلسطيني. ثم بعد ذلك، أي شيء أصعب من أن ينسلخ الإنسان عنوة عن مهد أجداده، من دون أن يكون بإمكانه العودة إليه، وأي شيء سيعوضه عن ذلك الألم، حتى وإن فتحت الدنيا برمتها يديها له.
كل ما سبق، إجابة مختصرة، عن سؤال فلسفي عميق للغاية: «ماذا لو كنت حنظلة؟»، الفرق بين المظهر والجوهر شاسع على العموم، لكنّ الحالة سواء، لا فرق جوهرياً بين حنظلة الأمس واليوم، صحيح أن الجيل الرابع للنكبة الفلسطينية لم يعد يلبس ثياباً مرقعة، ولا يمشي حافي القدمين، لكن الرقاع باتت في داخله، يستر بها نزيف روحه على فلسطين، وقدماه من داخل الحذاء، تتشققان من الركض وراء زمن، أدار ظهره لفلسطين وقضيتها.
أجيال النكبة المتلاحقة، تجاوزت جميعها السنوات العشر، التي أوقِف عمر حنظلة عندها، لكن الفلسطيني الصغير في كل جيل، يجد نفسه يشيخ باكراً، وهو يبحث عن ذاته، ويواجه الظروف الصعبة، تعليماً وطبابة وعملاً ومعيشة، لا سيما في مخيمات اللجوء، حيث صعوبة الحياة لا تختلف كثيراً عن أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة في خيام. الفرق فقط، أن الخيام تحولت إلى ألواح معدنية، ثم إلى سقوف إسمنتية. لكن داخل كل تلك المنازل، معاناة متجددة، بعناوين متعددة.
اللاجئ الفلسطيني اليوم، بات معروف الوجه، مكشوف المحيّا، لكنه يستمر بإدارة ظهره للتسويات والخيانات والحلول الخارجية، ولا يرتضي لفلسطين بدلاً، أيّاً كانت المغريات والعطاءات والوعود والبدائل، ورغم أن اللاجئ نفسه، فك عقدة يديه، وهو لزوم ما يلزم مع الزمن، غير أن ذلك لم يغيّر من حنظلة الحالة شيئاً، ألا وهي اللامبالاة بالاحتلال في الداخل، والتضييقات في الخارج، بل إن الفلسطيني، تخطى بإرادته كل صعب، ليسجل حضوراً استثنائياً في كل الميادين، تماماً كما كان حضور حنظلة خاصاً، وترك بصمته إلى اليوم، في الوجدان الإنساني الحي.
يولد كل فلسطيني، وفي داخله وجع، لا يعلم مصدره، وندبة لا يدري مَنشأها، وجرح غائر مجهول السبب، وحزن يدفعه للبكاء على أي شي، حتى إذا كبر وأصبح واعياً، علم من سياقات الحياة أن سبب كل ذاك وطن مسلوب اسمه فلسطين، وأن أصل حياته معاناة، وأجدادٌ منهم من قتل، ومنهم من هُجر، ومنهم من بقي يترقب الموت في أي لحظة.
لا ريب أن ناجي العلي كان يعلم أن في كل فلسطيني، مهما طال الزمان أو قصر، بعضٌ من حنظلة، قليلاً كان أم كثيراً. وهو في الغالب، ما ساعد تلك الشخصية، على أن تبقى حية، رغم تقلبات الزمن، ودورة الوقت، بل وأن تتربع على عرش الكاريكاتور الفلسطيني، والكوميديا السوداء، وهي مكانة لناجي لم تدانيها مكانة، على اعتبار أن كل من جاؤوا بعده، على تمكُّن الكثيرين منهم، لم يستطيعوا أن ينظّروا للوجع الفلسطيني، بالشكل الذي اختصره حنظلة.