«غارة إسرائيلية أودت بحياة القيادي في سرايا القدس تيسير الجعبري».يقولها مذيع في نشرة الأخبار، ثم يقفز إلى عالم آخر. يطوي أوراقه، ويترك المُستمعين مع إعلانات كثيرة عن صيف لندن، عروض السفر، وأماكن اللهو.
■ ■ ■

أذهب بعد إعلان الحرب هذا إلى الحرب التي أعرفها، هناك في بيروت صيف 2006. أستطيع أن أذكر الضربة الأولى للمطار. استيقظت المدينة على أصوات انفجارات عنيفة. كانت الطائرات الإسرائيلية تُغير على مدرج مطار العاصمة. لم يبق أحد في بيته. صار مخيم برج البراجنة سطحاً واحداً، الجميع ينظر إلى الطيران الحربي في سماء بيروت ويترقب. بدأ الكبار يروون قصصهم عن الاجتياح والحروب الكثيرة التي عاشوها. وكأن الزمان الذي مضى عاد للتو بسرعة صواريخ الأف 16.
ثم كان أن أصبحت الحرب أكثر قساوة، صار ليل الضاحية الجنوبية لبيروت جنوناً خالصاً، قصف يعقبه قصف، اشتد الخوف وتوسعت معه وحدة من بقي في برج البراجنة، نزح كثيرون إلى أماكن بعيدة عن الضاحية، ورفضت عائلات أخرى فكرة الخروج من المخيم.
■ ■ ■

يُكمل مذيع الأخبار في محطة أخرى أن غارة إسرائيلية أحالت ليل رفح نهاراً، وتوالت الأنباء عن ارتقاء عدد من الشهداء.
تأخذني الصورة إلى اليوم العاشر لحرب تموز، كان ليلاً طويلاً مر على الضاحية، وكنا عشرة أشخاص ننام في غرفة واحدة، نظن بذلك الأمان. كلما اشتد القصف أيقنت بأن لا نهار بعد هذا الليل، وكتبت في دفتري الصغير الذي ما زلت أحتفظ به «ليلتنا الأخيرة، لن أفرح بنتائج الإعدادية... لأن العالم لا يرانا».
ثم طلع الصباح وكان أن توقّف القصف لساعات، جاء بعدها خبر استشهاد صديقنا إبراهيم. كنا نناديه البوب. كان فتى وسيماً ومرحاً، مزقت جسده النحيل غارة إسرائيلية في ليلة الحرب العاشرة، حملوا جثمانه إلى المخيم، تقدّمنا نحن أصدقاؤه على الكبار في التشييع، هتفنا للشهيد حتى بُحت حناجرنا، كانت أم إبراهيم تنتحب على ابنها في الجنازة، وجهها الذي كان مدوراً جميلاً، صار مثلثاً فجأة، ضاعت ملامحه.
■ ■ ■

أشاهد ليل غزة وأذكر ليل بيروت، تُعيدني صور الشهداء إلى الشهداء، أرى الخوف في عيون أطفالها وأذكر خوفنا.
أشياء كثيرة تغيّرت بين الزمنين إلا جرائم إسرائيل. وكان أن أكملت بعد انتهاء حرب تموز الجملة في دفتري الصغير «العالم لا يرانا... إلا بالمقاومة»، هكذا كان وما زال.