لم يُعرف أشرف القيسي (42 عاماً) قبل أيّام قليلة، سوى بأنه بائع الخبز المحشو بالشوكولاتة، المعروف شعبياً باسم «العوقا»، غير أنه تحوّل من الرجل الذي يقضي نهاره متنقلاً بعربته الصغيرة في شوارع المدينة، إلى الرمز الذي طافت سيرته ألسنة الناس ومنشورات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما سمح بهدم منزله لإنقاذ جيرانه من تحت الأنقاض.

ففي مساء يوم الأحد الماضي، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزلاً مكوّناً من ثلاثة طوابق، يعود لعائلة المدلل، يتوسط منطقة الشعوت، المكتظة بالسكان بمخيم رفح، آنذاك، كان القيسي خارج المنزل برفقة اثنين من أبنائه الستة، تلقى حينها اتصالاً طلب منه العودة في الحال لأن المربع الذي يسكنه تعرّض للقصف. يقول القيسي في حديث إلى «الأخبار»: «أسرعت إلى الحي وكل جسمي يرتجف خوفاً على عائلتي، وصلت إلى الحيّ الذي تغيّرت معالمه، وبدأت بالبحث عن زوجتي وأطفالي، أخبرني أحد جيراني أنهم بخير، لكن أحد الأطفال أصيب بجروح، وهم في منزل الجيران».
«بالكاد أستطيع تأمين لقمة عيشي، لكنّي كنت أشعر بأنّي قمت بأقل الواجب»


يواصل الرجل الذي يعيل أسرة مكونة من ثمانية أشخاص: «المنازل في حيّنا صغيرة ومتلاصقة ومكتظة بالآلاف من السكان... اطمأننت على عائلتي، وخرجت لمساعدة الأهالي في البحث عن المصابين وإنقاذ الأحياء من تحت الركام، لكن كانت عمليات البحث تتم ببطء شديد، ورأينا أن طريقة البحث اليدوية ستستغرق ساعات ولن نستطيع إنقاذ أيٍ من المصابين إن كان على قيد الحياة».
أمّا زوجته أم محمد، فتداري دموعها وهي تقول: «سمعت صوت ستة صواريخ متتابعة، احتضنت أولادي وغطيتهم بالفراش والملابس حتى لا يصابوا بمكروه... جاء الشباب حاولوا إنقاذ جيراني وجاراتي، كثير أحباء على قلبي، طلبوا أن يهدموا البيت حتى يتمكنوا من إدخال الآليات إلى بيت جيراننا المكون من أكثر من ثلاث طبقات، بدون أي تفكير قال لهم زوجي، اهدموا البيت وانقذوا جيراننا وأحباءنا».
يشير أبو محمد إلى أن بيته، الذي لا تتجاوز مساحته الـ 65 متراً، هو المدخل الوحيد الذي من الممكن أن يسمح لآليات الإنقاذ بالوصول إلى منزل عائلة المدلل المستهدف. يقول بأسلوبه البسيط: «قلت لهم اهدموا البيت، ما بدي أطلع شي من الأغراض والأثاث، وأنقذوا المصابين من تحت الأنقاض بسرعة». يتابع حديثه: «وقف الجيران خلال أكثر من ثلاث ساعات، استغرقها هدم منزلي، بمشاعر غير مفهومة، هم حزنوا عليّ لأن منزلي يهدم أمام عينيّ، وأنا بالكاد أستطيع تأمين لقمة عيشي، لكني كنت أشعر بأني قمت بأقل الواجب، الذي لا يستحق حتى أن تجروا معي مقابلة بسببه».

(أ ف ب )

كانت الطائرات الإسرائيلية قد قصفت منزلاً يعود لعائلة المدلل، كان يقيم فيه الشهيد القيادي في «سرايا القدس» خالد منصور، برفقة اثنين آخرين من معاونيه، وتسبّبت المجزرة بارتقاء تسعة شهداء، بينهم طفل وثلاث نساء، فضلاً عن إصابة أكثر من ثلاثين مواطناً بجروح متفاوتة.
تقول أم محمد، التي قضت ما تبقّى من ساعات الحرب في منزل جيرانها، بعدما نقلت طفلها المصاب إلى المستشفى: «ما قيمة الحجارة أمام الدم والأرواح، هؤلاء جيراننا من أكثر من 16 عاماً، الطفل الشهيد محمد حسونة، هو ابن جارتي وتربّى في منزلي مع أطفالي، نحن نعيش اليوم حزناً لا يقارن بفقدان بيت أو أيٍ من متاع الدنيا»، فيما يردف زوجها: «مصيري وعائلتي اليوم لا يختلف عن مصير المئات الذين هدمت منازلهم، المال الله بيعوض فيه، المهم أننا فعلنا ما يرضي ضميرنا ووطنيتنا».