مرّ وقتٌ طويل. أبوح لنفسي بينما أبتلع آخر ما تبقّى في الكأس من نبيذ. أبتلع لأنني أرغب في النسيان، وفي التوقف عن البكاء، وفي وضع حائط يحول بين نومي وبين الكوابيس التي تطاردني كأشباح مُلحّة مزعجة. في آخر زيارة لي إلى الطبيب، قال الأخير إن عليّ تناول مضادات الاكتئاب لأتغلّب على حزني. رحت أردّد في صمت :«وحده الذي يعرف الحنين/ يعرف ما أعاني/ وحيداً ومنفصلاً/ عن كلِّ فرحٍ/ أنظرُ في السماء/ إلى ذلك الجانب الآخر. آه! فالذي يحبُّني ويعرفني هو في الأبعاد/ أدوخ، وأحشائي تلتهب/ وحده الذي يعرف الحنين/ يعرف ما أعاني!» (يوهان غوتيه). هكذا اختصرت الأمر على الطبيب، وعلى الدواء الذي محال أن يعرف الحنين؛ إذ لا قوة بمقدورها لجم تضخم الذاكرة مع تقدّم الزمن، حين يصبح وزن الرأس مضاعفاً فيما أشعر أن في قلبي شيء لا أقوى على حمله إطلاقاً، وكأن الذاكرة تنشطر في عملية طرد مركزي لا نهائي، ويصبح قلبي في هذه العملية الفيزيائية المكانَ الذي يختزن الأشياء الثقيلة والمعقّدة بينما تُطرد الأشياء القابلة للحمل فتلتصق على جدار جسدي.
ماذا عليّ أن أفعل بعد؟ لقد توقّفت منذ وقت طويل عن وضع الحُليّ كي لا تذكّرني بذلك البائع الضحوك في حارة النصارى في البلدة القديمة بالقدس، كما أنني أخفيت تقريباً الصندوق حيث أضع هذه الإكسسوارات كي لا يظهر أمامي إطلاقاً، حتى أنني فرّطت في بعضها ووزعتها على صديقات كتذكار من فلسطين. ذات يوم، كنت أضع واحدة منها في أذنيّ، كانت ثقيلة أيضاً، شعرت بثقلها بينما رحت أصدم رأسي عمداً في جدار غرفة المراحيض بالجريدة وأنا منهارة بالبكاء، وفيما أخذت أذناي، بفعل الاصطدام وثِقْل الحلق، تروح وتجيء في اهتزاز مزعج، تساءلت لماذا لم يصل المخترعون والعالمون بعد إلى جهاز يمحو الذاكرة؟ ما الذي يشغلهم عن تخفيف العبء عن كاهل الإنسان؟
أذكر أنني غسلت وجهي يومها بمياه بيروت المالحة، بينما كانت دموعي تتدفّق فيما لا أستطيع التمييز بين أيّهما أكثر ملوحةً؛ الماء المنسكب من الصنبور أم دموعي. كان الطقس دبِقاً ورَطباً، ولا يشبه طقس القدس، فالأخيرة، بخلاف بيروت، حارّة غير أنها جافة. ومع ذلك، وبينما انتهيت من نوبة البكاء متوقفةً على أحد الشبابيك، لا أعرف لماذا تراءى لي أنني أقف على سطح الهوسبيس النمسواي وأنني ما زلت أمسك بين يدي كأساً من الليموناضة المنعشة، فيما تظهر المدينة العتيقة وقد تكورت البيوت في باطنها مثل أجنّة صغيرة منطوية، مربوطة بحبال معلقة بالقبة الذهبية للمسجد. وفجأة سمعت صراخاً وجلبة، كان رجلاً في الستين تقريباً يحمل، كما بدا لي، صرّة. أقسم أنني رأيت دموعه تنهمر على خديه، وهو واقف أمام بوابة حديدية كحلية اللون عند مدخل بيت مبني من الحجر العتيق. كان يقول غاضباً «مش متزحزح من هون هذا بيتي»، عندما شدّته مجموعة من الجنود الإسرائيليين من ذراعيه في محاولة لإبعاده عن البوابة. لكنه ظلّ متمسكاً بتلك القضبان، وهو يصرخ مبحوحاً من الألم باتجاه مستوطنين اعتلوا سطح بيته، وأخذوا يعلقون عليه أعلاماً إسرائيلية.
كان الطقس دبِقاً ورَطباً، ولا يشبه طقس القدس، فالأخيرة، بخلاف بيروت، حارّة غير أنها جافة


هبطت مسرعة من سقف الهوسبيس، كانت مجموعة من السيّاح المسيحيين قد وصلت إلى الرواق الأخضر في قلب الفندق استعداداً، على ما يبدو، لدخول الغرف. اخترقتُ الجمع مثل سيف، قبل أن أصل إلى نهاية الرواق الذي مُدّت فيه سجادة حمراء. وقفت عند النافذة، بالأحرى ارتطمت فيها مثل ذبابة نسيت للتو أنها كانت هنا. كان الرجل لا يزال في الأسفل يصرخ ويبكي، ركضت مسرعةً في عكس الاتجاه الذي أتيت منه حتى وصلت أخيراً إلى المدخل وقفزت عن الدرجات القليلة، متوجهة نحوه. «عمي عمي.. متبكيش»، قلت له، فيما كانت حنجرتي تحاول إخراج الكلام وكأنني أستفرغ لقمة ضخمة تعقّد سيرها في المريء. مددت يدي محاولة تخليصه من بين أيدي الجنود، بينما كانوا يتناوبون على سحبه، فبدا لي وكأنه جثة هامدة يتدلى رأسها إلى الأسفل بين الكتفين. ظل الجنود يسحبونه على البلاط فغدا جسده مثل يسوع المسيح وهو يجر صليبه في طريق الآلام. اختفى الرجل والجنود بين الأزقة، بينما مسحت صرّته بقع الدم التي كانت تكبر مع تقدّمه في الطريق إلى حيث جُرَّ. بدا دمه مثل خط طويل وكأنه طلاء عبرت فوقه فرشاة.
حاولت اللحاق به على خط الدم الممدود. رفعت قدمي عن الأرض، لكن خدراً قوياً ثبتني في مكاني. رفعت رأسي إلى الأعلى؛ حيث كاميرا للمراقبة، كانت تتحرك يميناً ويساراً، طلوعاً ونزولاً، وعند جهة البيت تحديداً كان المستوطنون لا يزالون واقفين، مثل كومة غربان متجمعة على غصن شجرة. شعرت بيدٍ تحط على كتفي، أدرت وجهي؛ وإذ به جدي حسن. ولكن جدي حسن مات منذ حوالى 12 سنة. ما الذي أتى به إلى هنا؟! «سيدي (جدي) شو عم تعمل هون؟». سألته. لكنه لم يجب، واكتفى بجرّي من يدي وهو يقودني بين الأزقة. توقف بي عند عربة عليها جبل من القُرشلة (الكعك) قلت له إنني أكره رائحتها، فهي تذكرني برائحة أقدام تعفنت داخل الجوارب! صرخت أن مذاقها غير طيب، وقساوتها تهد حيل الأسنان وأنت يا جدي سقطت أسنانك واحداً تلو الآخر، فلماذا تصر على أكلها؟ أطل البائع من فوق الكومة، سلمه جدي بعض الشواكل وحمل كيس القرشلة ماضياً بي إلى درج في الجهة الشمالية من البلدة؛ حيث حطت عليه مجموعة من العجائز التي تبيع النباتات العطرية. حدقت في وجه إحداهن، فكانت تجاعيدها كثيرة مثل أخاديد، ملامحها تعبة وحزينة تختزن العذاب الذي تعانيه يومياً أثناء اجتيازها الحاجر بين الضفة الغربية والقدس. سألتني إن كنت أريد الزعتر «عندي ميرمية كمان إذا بدك». أشحت بوجهي في صمت مطبق، حتى قطع شرودي طفل صغير يجر عربة كعك، مطالباً بإفساح المجال له ليعبر. «سيدي سيدي وينك؟». مضيت أبحث عنه بين الأزقة، حتى وجدته أخيراً في سوق العطارين، واقفاً أمام تلة من الزعتر المطحون تزينها أدراج من السمسم والسمّاق فيما يعلو قمتها تمثال مصغر لقبة الصخرة. «سيدي استنّاني (انتظرني) مترحش (لا تتزحزح)». كان يلبس قميصاً أبيض بأكمام قصيرة، وبنطالاً قماشياً رمادياً، رأيت عينيه تلمع وهو يضحك محدثاً البائع، وكانت جدتي شفيقة تقف غير بعيدة منه وهي «تُفاصل» التاجر لتشتري بعض البهارات بالسعر الذي يناسبها طبعاً. ركضت لأحضنها بينما انهمرت دموعي بغزارة شديدة إلى حدٍ لم أعد أقوى على الرؤية. اختفت جدتي! لعلها تفاصل في سوق آخر، بحت لنفسي. لماذا يهربون مني مثل سراب؟ تساءلت. بقيت أمشي بين الأزقة حتى وصلت إلى الزاوية النقشبندية عبوراً بطريق عقبة الراهبات الطويلة. توقفت أمام «الزاوية» وأنا ألهث من التعب، فتراءى لي من الباب الأخضر المفتوح شيوخ متصوفون بعباءات مزركشة ألوانها زاهية يقرؤون القرآن. بقيت أنظر إليهم متبسمة في دهشة. إلى أن سمعت صوت الآذان منطلقاً من المسجد الأقصى، فمشيت حتى وصلت إلى باب الغوانمة. لم يكن معي منديل ولا ثياب تغطيني. بحثت عن أحد بائعي أثواب الصلاة فلم أجد. أمرني جندي إسرائيلي يجلس فوق كرسي أبيض بلاستيكي بأن أسلمه هويتي. تجمدت في مكاني، فيما كانت تسري في أوصالي رعشة عنيفة. رحت أرجف، قبل أن أقوى على النُطقِ أخيراً «شخاختي أوتاه ببايت» (نسيتها في البيت). سألني من أين أنا فقلت من مجد الكروم. «أنحنوا شخينيم، أنيه مِ كرمييل» ردّ معلقاً (نحن جيران أنا من كرمئيل - مستوطنة في الجليل). انسحبت فيما أدرت ظهري له، ورحت أمشي في خطى متسارعة، كان الليل يهبط ببطء شديد. بقيت أمشي إلى أن خرجت أخيراً من باب العمود عند المدخل الشمالي للبلدة القديمة. توقفت أمام صبية يجلسون فوق المدرج و«يفصفصون» بذور عباد الشمس. «تفضلي» قال أحد الفتية. «شكراً»، رددت مبتسمة. صعدت إلى أعلى المدرج وجلست هناك. رحت أنظر إلى الباب الطويل الضخم، وفي أعلى السور المحيط به، رأيت جنوداً يصوبون بنادقهم من قلب فتحات بين حجارة الجدار. هممت بالوقوف. وفجأة انتبهت إلى شرفة تعلوها نباتات صبار ضخمة، فاكتشفت أنني أنظر في هذه اللحظة من الشباك حيث أقف، إلى أحد المنازل الكائنة في بناية وسط نزلة السارولا المؤدية إلى شارع الحمرا في بيروت!