كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة»
صحيح أن للإنسان نصيباً من اسمه، أو هكذا الظن، إلا أن الأسماء بتشعّباتها تزول إذا ما اقترنت بفعل ربما تتحوّل إلى صفة تلازمه. وهكذا لم يعرف الطفل سوى الصفة من الاسم. وإذا عدنا إلى أصل الكنية فنجدها تمتد إلى الكنافة أو صانعها في دمشق الصغرى، أي نابلس، أو دمشق العاصمة حيث صُنعت للمرة الأولى للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان حين أقام في الشام. أمّا الخيار الآخر، فهو يعود لأصل كلمة كنافة المُشتقة من الكلمة العربية كَنَف وتعني الإحاطة. وبالتالي صانع الكنافة وبائعها هو الكنفاني، أمّا غسان فكان صانع الأمل وبائع التحدي عبر أعماله. فعاش اسمه وسبقه فعله.
يفاخر الفلسطينيون بإنتاجهم الثوري وفي مقدمة ذلك ما تركه غسان من مؤلفات تؤرخ لهم وتقصّ حكاياتهم وتدعوهم للاستمرار. كتب الحكايات وأسرّ بالخفايا حتى تحوّل إلى حكاية قائمة بسيناريو وحبكة تشبه حالهم منذ ما قبل النكبة حتى حلم التحرير. لذلك تجده مؤثراً على الرغم من غيابه، وأمثاله قلة. والسؤال يظل يراود الطفل حين كبر: كيف استطاع هذا الكائن أن يكون بهذه الهيئة الممتدة لأكثر من 50 عاماً، وبهذا الإنتاج في سياق مكتظّ بالعمل السياسي والإعلامي والأدبي وهو استشهد في عمر الـ36؟ وإذا اعتبرنا أن أعوام المراهقة مُلغاة من الحسابات، فاستطاع في 20 ربيعاً أن يتحوّل إلى مثقف تغييري، مناضل عضوي، قائد مفكّر، عاشق رومانسي، وأب غير تقليدي. كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة». مقادير عديدة مُزجت في مزاج أديب ليكون السياسي أو الصحافي في قمة كتاباته فكان الإنسان. ولهذا الإنسان سر من أسرار الآلهة المتبعة في أرض كنعان في سالف الأزمان. ولو لم يكن كذلك لتكرّر شخصه أو تجربته ببدن آخر أو على هيئة سيرة ذاتية تأتي كل قرن مرة وفي مكان مختلف.
غسان كنفاني: كنافة فلسطين الأدبية والسياسية ولها خلطتها وسرّها ونكهتها المميزة. ولعله لا يوجد فلسطيني يكره الكنافة، كذلك غسان. لن تجد أحداً لا يحبه أو لم يتأثر به. هو أصل البداية لأطفال فلسطين، كنتُ أحدهم. ولطالما تذكّرت غسان عند حضور الكنافة، وما نسيت الكنافة إلا لاستحضار غسان.