صباحاً، قبل الضحى بقليل. تعرّق أطفالٌ لم تتجاوز سنّهم العاشرة بسبب الاستمرار في «الطلوع» بـ«طلعة جبل الحليب» في مخيم عين الحلوة. المقصد كان روضة الشهيد غسان كنفاني، وموقعها في أقصى جنبات المخيم. أحد الأطفال، تأتأ لزملائه عند الوصول وقراءة اليافطة المقوّسة المُعرّفة بالمكان: «غسان كنفاني... الفطور كنافة على هيك». تلقائياً، حذف الاسم الأوّل واهتم بالصفة. يبدو أنه كان جائعاً. استقبلت آنسة الأطفال المتعبين، وأدخلتهم إلى غرفة تملأها ألعاب كثيرة وطبلية مستديرة توسّطتها وتحلّقت حولها كراسيّ صغيرة. جلسوا، وإذ بالطفل نفسه يهمهم: «الكنافة جاي... ولا ليش قعدونا». تدخل سيدة تسأل عن الأسماء وأماكن السكن. لتعود الآنسة الأولى وتبادر بتوزيع قرطاسية ودفاتر للرسم. فهموا أن لا كنافة في الطريق، إنما حصة تلوين ورسم.انتهت الحصة الأولى من اليوم الأوّل للنشاطات الصيفية المجانية. كان ذلك في منتصف التسعينيات، وبعد اتفاق أوسلو مباشرة. أثناء الحصة الثانية، وهي نشاطات رياضية، انشغل الجميع باللعب في باحة الروضة. أمّا ذاك الطفل فذهب يفتش عن الكنافة الموعودة. دخل المطبخ: «وين الكنافة؟». وبّخته امرأة وهي تغلي ركوة قهوة، فعاد منزعجاً إلى رفاقه. وفي خلال الحصة الثالثة، دخلوا إلى المكتبة، ورُكن على الرف مجموعة قصصية باسم «أطفال غسان كنفاني» وفي وسط الحائط خُطّت عبارة «الأطفال هم مستقبلنا»، تحتها قائلها، أي غسان. تخيّل الولد الشقي أن للرجل الكنفاني أبناء يطعمهم يومياً الكنافة، فحسدهم في باله المشغول منذ قدومه بطبق أو ساندويش يُمطر منه القطر. قطعت الآنسة خياله بسؤال عام: «بتعرفوا غسان كنفاني؟». تبلّدوا جميعاً إلا هو: «لا ما بعرفو بس بدي آكل كنافته». ابتسمت الآنسة واسترسلت في الشرح والربط بين أحداث حصلت وأخرى تحدث، وعن شخص تحوّل في قادم الأيام إلى رفيق درب وليل برواياته ومقالاته للطفل ذاته.
كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة»


صحيح أن للإنسان نصيباً من اسمه، أو هكذا الظن، إلا أن الأسماء بتشعّباتها تزول إذا ما اقترنت بفعل ربما تتحوّل إلى صفة تلازمه. وهكذا لم يعرف الطفل سوى الصفة من الاسم. وإذا عدنا إلى أصل الكنية فنجدها تمتد إلى الكنافة أو صانعها في دمشق الصغرى، أي نابلس، أو دمشق العاصمة حيث صُنعت للمرة الأولى للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان حين أقام في الشام. أمّا الخيار الآخر، فهو يعود لأصل كلمة كنافة المُشتقة من الكلمة العربية كَنَف وتعني الإحاطة. وبالتالي صانع الكنافة وبائعها هو الكنفاني، أمّا غسان فكان صانع الأمل وبائع التحدي عبر أعماله. فعاش اسمه وسبقه فعله.
يفاخر الفلسطينيون بإنتاجهم الثوري وفي مقدمة ذلك ما تركه غسان من مؤلفات تؤرخ لهم وتقصّ حكاياتهم وتدعوهم للاستمرار. كتب الحكايات وأسرّ بالخفايا حتى تحوّل إلى حكاية قائمة بسيناريو وحبكة تشبه حالهم منذ ما قبل النكبة حتى حلم التحرير. لذلك تجده مؤثراً على الرغم من غيابه، وأمثاله قلة. والسؤال يظل يراود الطفل حين كبر: كيف استطاع هذا الكائن أن يكون بهذه الهيئة الممتدة لأكثر من 50 عاماً، وبهذا الإنتاج في سياق مكتظّ بالعمل السياسي والإعلامي والأدبي وهو استشهد في عمر الـ36؟ وإذا اعتبرنا أن أعوام المراهقة مُلغاة من الحسابات، فاستطاع في 20 ربيعاً أن يتحوّل إلى مثقف تغييري، مناضل عضوي، قائد مفكّر، عاشق رومانسي، وأب غير تقليدي. كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة». مقادير عديدة مُزجت في مزاج أديب ليكون السياسي أو الصحافي في قمة كتاباته فكان الإنسان. ولهذا الإنسان سر من أسرار الآلهة المتبعة في أرض كنعان في سالف الأزمان. ولو لم يكن كذلك لتكرّر شخصه أو تجربته ببدن آخر أو على هيئة سيرة ذاتية تأتي كل قرن مرة وفي مكان مختلف.
غسان كنفاني: كنافة فلسطين الأدبية والسياسية ولها خلطتها وسرّها ونكهتها المميزة. ولعله لا يوجد فلسطيني يكره الكنافة، كذلك غسان. لن تجد أحداً لا يحبه أو لم يتأثر به. هو أصل البداية لأطفال فلسطين، كنتُ أحدهم. ولطالما تذكّرت غسان عند حضور الكنافة، وما نسيت الكنافة إلا لاستحضار غسان.