من الصعب تصنيف شخصية كغسان كنفاني، فهو معروف بين الفلسطينيين ولكل المهتمّين بالقضية الفلسطينية كشخصية متعدّدة الأبعاد. فقد كان ثورياً ماركسياً ومتحدّثاً رسمياً باسم حزب، لكنه أيضاً روائي ومنظّر سياسي، إضافة إلى كونه معلّم مدرسة وفناناً ومحرّراً صحافياً وأممياً ملتزماً. كل هذه الأبعاد المتفاوتة من شخصية كنفاني تتناسب مع طبيعة حياته، ولذلك كان متمكّناً في جميعها، بيد أنه كان أقل شهرة من ناحية براعته في النقد الأدبي. قام غسان، خلال حياته القصيرة، بمراجعة وتحليل أنواع مختلفة من الكتابات الإبداعية، إذ كان طالباً في كلية الآداب بجامعة دمشق، حيث التقى بمعلّمه جورج حبش مؤسّس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». إضافة إلى «الأدب الصهيوني»، قام كنفاني بتأليف كتابين نقديين للأدب الفلسطيني، وخلافاً لأعماله الروائية والقصصية، لم تتم ترجمة أعماله النقدية إلى اللغة الإنكليزية.

يبيّن كتاب «في الأدب الصهيوني» كيف كان كنفاني ناقداً لاذعاً وصارماً، ولكنه وفي الآن ذاته كريمٌ في فهمه للعاطفة والشكل، وإن كان قاسياً في تقييمه لكل من السياسة والأساطير. ولا يمكننا أن نفهم نقده الأدبي بشكل كافٍ من دون الخوض أيضاً في البعد السياسي الذي أضفاه على العملية النقدية، بل إن نمط نقده يساعد أيضاً في كشف القيود التي تعتري منهجية النقد الأدبي بشكل عام.
جرت العادة ألّا يتم تسييس عملية النقد الأدبي، وهذا ما قد يبدو، بحد ذاته، أمراً سخيفاً، فهذه القيود والمحاذير على التسييس ليست بديهية بقدر ما هي نوع من الاحتكار الإيديولوجي، إذ إن الهدف منها هو الحفاظ وتعزيز عقيدة فكرية واقتصادية معيّنة. وهنا يتم تصنيف النقد «السياسي» في مرتبة أدنى من المجهود والعمل الثقافي، فالذين يتبنّون المعايير الأكاديمية والفنية يمنعون الفكر الثوري من الدخول إلى أطرهم المؤسساتية. وعليه، يكتسب أي نقد يهدّد مراكز القوى وصفَ «السياسي»، وهو وصف ذو حمولة سلبية، بالضرورة، له ولصاحبه. ولذلك، ومن جهة أخرى، تكتسب إيديولوجية مراكز القوى صفةَ «اللاسياسي؛، وفي بيئة كهذه لا مكان لنقّاد من أمثال كنفاني.
بالنسبة إلى كنفاني، لم يشكّل التناقض مع هذه البنى والعادات البرجوازية معضلة، فقد كانت غاية مقاربته النقدية إثراء ورفد النضال من أجل التحرّر الوطني الفلسطيني. ولم تكن من منطلقات اعتباطية، بل تندرج في سياق أطروحته التي تنص على أن الأدب الصهيوني، بحد ذاته، سياسي إلى حد كبير. كما يبيّن غسان، عملَ قادة الصهاينة على «مخطط ضخم» لتجنيد مجموعة واسعة من الأعمال الفنية لخدمة مشروعهم الاستعماري. وقد حشد قائمة طويلة من الأمثلة لإثبات ذلك، من مؤلف يائيل دايان «الغيرة من الخائفين»، إلى مقالات آحاد هعام عن الصهيونية واليهودية، وصولاً إلى مؤلف ليون أوريس «الخروج» (Exodus)، بالإضافة إلى مجموعة متنوّعة من المواد الإبداعية والتاريخية الأخرى.
لم يقتصر نقد كنفاني على النصوص نفسها، بل قام بدراسة عمل دور النشر والمؤسسات الثقافية المرتبطة بها باعتبارها مؤسسات تمثّل سياسة الإمبراطورية؛ ينتقد لجنة تحكيم جائزة نوبل على وجه الخصوص، وبشكل قاسٍ، حيث تساءل: «لماذا كافأت لجنة جائزة نوبل كاتباً رجعياً وشوفينياً (شموئيل يوسف عجنون) عام 1966، في حين أن كتاباته تفتقر إلى جميع المعايير الأدبية المطلوبة لمثل هذه الجائزة؟». بالنسبة إليه، لم يكن المشهد الأدبي الغربي يمثّل منتدى مفتوحاً قائماً على الجدارة والاستحقاق، إنما كان سوقاً خاضعة لسيطرة محكمة تهدف إلى إرضاء ميول الطبقة الحاكمة.
لم يقتصر نقد كنفاني على النصوص نفسها، بل قام بدراسة عمل دور النشر والمؤسسات الثقافية المرتبطة بها


وعليه، ولفهم الأدب الصهيوني، يجب على الناقد تحليل العملية العسيرة، والمتناقضة في كثير من الأحيان، لأصل الفكرة الصهيونية القائمة على اصطناع قومية تجمع شمل مجتمعات مختلفة ومتباينة. هنا، لم تكن الصهيونية لتحقق أهدافها الفجّة دونما سطوتها على الخيال الغربي عبر البراعة الأدبية وغيرها من مجمل وسائل الإعلام الإبداعية الأخرى. لقد كانت عمليات إعادة صياغة النصوص، وكذلك المراجعات، سمة محورية في استراتيجية الصهاينة والإمبريالية للهيمنة والسيطرة على فلسطين. شرع قادة الحركة الصهيونية في التنقيب بالماضي من أجل خلق ذريعة قابلة للتطبيق لاستيطانهم في بلاد الشام. وهنا، وجدوا غايتهم في الإنجيل للحصول على هكذا مصدر، وهو ما ألهم قدراً كبيراً من المنح الدراسية. لكنّ كنفاني أظهر أن مجمل الأعمال المحورية لهذا الاختلاق تمّت عبر أدواتٍ ثقافية، أحد أعمدتها الأساس الكتابة الإبداعية، التي رفدت المشروع الصهيوني، بشكل مباشر، أو أنه قد تم تجنيدها في خدمة الصهيونية من قبل إيديولوجيين أو مختلف صانعي الأذواق البرجوازيين.
ومن بين المؤلِّفين، الذين تم حشدهم من أجل هذا الهدف، شخصيات فكتورية معروفة، مثل بنيامين دزرائيلي وجورج إليوت. ومن المقتطفات العديدة المذهلة، التي أبرزها كنفاني وهو يحلّل التطور المبكر للاستعارات الصهيونية، مقتطفٌ يدعو صراحة فيه دانيال ديروندا، وهو إحدى شخصيات رواية إليوت، إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، قبل أكثر من سبعين عاماً من أن يصبح ذلك حقيقة على أرض الواقع.
بشكل ما، يُنبئ نهج كنفاني بظهور الدراسات الثقافية في العقد الذي يلي استشهاده، حيث بدأ النقاد باستشعار أنهم أقل تقييداً بادّعاءات «الموضوعية»، وبدأوا مقاربة الأدب كسلعة إيديولوجية، ولا سيما استخداماته في الحملات الدعائية والبروباغندا ضد الشيوعية. ومن المرجّح أن أي أحد يؤمن بوجود سوق ثقافية محايدة سيواجه مشكلة مع «في الأدب الصهيوني»، الذي يعامل أي مواقف ضمن هذا النهج على أنها سخيفة وغير جادة، إذ إن السوق الثقافية موقعُ تراكم، مثل أي صناعة رأسمالية أخرى، إلا أن الفارق يكمن في أن منتجات هذه السوق تدخل في الاقتصاد بصورة مجرّدة، وهذه السوق هي العماد الجمالي لصناعة الهيمنة.
على هذا الأساس، يقترح كنفاني أن الإيمان بالصهيونية يحول دون حقيقة إدراك واستيعاب الأدب الصهيوني. والمفارقة الكبرى هنا أنه لا يمكن قراءة الأدب الصهيوني سوى من خلال رفض الصهيونية، إذ إنه، وفي حالة الأدب الصهيوني، ولكي يصل هذا الأدب إلى غرضه وغايته السياسية، عليه أن يبدو بلا هدف، وهذا التشفير الإيديلوجي هو ما قضى كنفاني الكثير من وقته لتفكيكه وكشفه. والأدب هو مقدّمة وملحق للمشروع الاستعماري، والمشروع الاستعماري يختلق أدبه، وكذلك الأدب يساهم في خلق المشروع الاستعماري، ولذلك عليك أن تفهم كليهما من أجل فهم أيّ منهما.
والسؤال هنا، إلى أين يمكن أن يقودنا نهج كنفاني من ناحية العمل الفكري والسياسي؟ ربما سيظل هذا التساؤل في ذهن القارئ أثناء تصفّح الكتاب. لم يترك كنفاني لنا أي خيار سوى التفكير في مسائل التحرير، فلا يسمح إلحاح نبرته، وتضخيمها في بعض الأحيان، باللامبالاة أو التردّد. ولا تفضي منهجيته إلى أي نوع من التخلي وعدم الانخراط في العمل الثوري، وهو موقف كان سيجده كنفاني غريباً، بالنظر إلى المزاج الثوري بين الفلسطينيين والعرب بشكل عام في أعقاب حرب 1967، إذ كان الفلسطينيون ينقلون ألم الهزيمة إلى أشكال جديدة وأكثر إلحاحاً على المقاومة، فقد كانت «الجبهة الشعبية» على بعد أشهر فقط من تأسيسها الرسمي، وكان كنفاني، البالغ من العمر 31 عاماً فقط، يزخر بالحيوية التي تكاد تشعّ من صفحات الكتاب. ومنذ انطلاقتها، اهتمّت «الجبهة» بالإنتاج الفكري، ولديها أرشيف حي وثري بالنظريّات الثورية. وفي الوقت ذاته، حافظت على وجودها العسكري النشط ضمن المقاومة الفلسطينية حتى يومنا هذا، بما يجسّد، إلى حد كبير، تقاليد ونهج كل من فرانز فانون وأميلكار كابرال. وتبنّي العنف ليس وسيلة لتحقيق السيادة على الأرض، وعلى مستوى العمل السياسي، وحسب، بل كذلك يحضّر سايكولوجياً للتحرير. من هذا المنطلق، تستحيل عملية فصل إنتاج غسان الأدبي عن السياسي، بل من المباح القول إن تقييم كنفاني للأدب الصهيوني هو في الأساس منطلق للتأكيد على مستقبل فلسطين، فـ«في الأدب الصهيوني» نقد أدبي سياسي، وذلك تحديداً من خلال التزام كنفاني القاطع برفض الفصل بين كل من الثقافة والإمبريالية.