منذ نصف قرن، حدثت الفاجعة، «حملت رأساً وبعضاً من صدر ويداً واحدة لصديقي ومعلمي غسان كنفاني، كدت أسقط أرضاً لولا مسارعة بعض الرفاق إلى مساندتي للصعود بذلك الحمل على الدرج». بهذه الكلمات يسترجع الصحافي المناضل عدنان بدر الحلو، ابن قرية مشتى الحلو السورية، مشهد استشهاد غسان كنفاني، معبّراً عن رمزية ثقل الإرث والمسيرة التي تركها غسان له وللأجيال التي ستكملها وصولاً إلى فلسطين... حلم غسان. يصف عدنان تلك اللحظات بالقاتلة، ويضيف لـ«الأخبار»: «متأكد أنني لم أكن بكامل وعيي، لا أعرف كيف ارتميت على أحد مقاعد الصالون، ولا من أخذ بقية غسان من بين يديَّ... كل ما أعرفه أنها كانت اللحظات الأصعب في حياتي».

لعل تلك المشهدية، التي تحاكي في دراميتها أعتى أساطير الإنسانية، هي أقرب وأوضح تجسيد للواقع، بعيداً من الصور، بعيداً من أي تشكيل أو تجريد، فكم نعيش اليوم بنصف صدر ويد واحدة مثقلين برؤوسنا. هبّت بيروت يومها؛ أكثر من 40 ألف شخص تزاحموا في شوارع المدينة لتشييع ابن الـ 36 عاماً، في جنازة ضمّت لاجئين فلسطينيين ومواطنين لبنانيين، ومثقفين وقادة سياسيين، ووُصفت في حينها بأنها إحدى أكبر التظاهرات السياسية التي حدثت في العالم العربي حينها.

عبروا الجبال تهريباً لتشييع ولدهم الشهيد
لم تع ريم كنفاني، ابنة شقيق غسان، تلك الحقبة، حين استشهد عمّها وهي لم تبلغ عامها الأوّل، لكنّ روايات ذاك اليوم المتناقلة أثقلت ذاكرتها وذاكرة أجيال، ليس ذاك اليوم فقط، فهو نتيجة المقاومة من أجل استعادة الأرض. لم يكن سهلاً على أفراد عائلة غسان، حتى وهم يحاولون توديع ما تبقّى من جسده، أن يصلوا إلى بيروت. تروي ريم كنفاني من بيت العائلة في دمشق لـ«الأخبار»: «جدي المحامي محمد فائز كنفاني كان يقضي العطلة في منطقة كفرون إحدى المصايف السورية القريبة من الحدود اللبنانية، سمع خبر استشهاد غسان من الراديو، وكان الفلسطيني يومها ممنوعاً من الدخول إلى لبنان كما جرت العادة! لذا هرع عبر الجبال ليصل إلى بيروت تهريباً بمساعدة أهل كفرون الذين يحفظون تلك الأراضي ببراعة أكبر من حدود وأسلاك مصطنعة».
تخبرنا ريم أن معظم أفراد العائلة اجتمعوا يومها في بيروت، فوالدها عدنان أيضاً كان بعمله في دمشق عندما علم بخبر استشهاد شقيقه، لينطلق سالكاً طرق التهريب الجبلية وصولاً إلى بيروت: «التشييع المهيب الذي خرج له في بيروت لم ينته في مقبرة الشهداء هناك، بل امتد لسنوات في كل العواصم العربية والعالمية، وبالطبع دمشق كانت في مقدمة العواصم، وكيف لا وهي التي حفظ غسان صورة وجهها ورسم بين حاراتها ذكريات الشباب الأولى».

دمشق وغسان
عام 1948، خرج غسان كنفاني برفقة عائلته من فلسطين في سيارة شحن إلى لبنان وكان يبلغ من العمر 12 عاماً، وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديماً في بلدة الغازية قرب صيدا جنوب لبنان، بعدها بمدة صغيرة، انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب (نزلوا في حمص بناءً على إصرار والده)، ثم إلى الزبداني فدمشق. تقول ريم: «سكنت عائلة جدي في حي الميدان، ثم انتقلوا إلى منطقة زقاق الجن في البرامكة، طبعاً كانت البيوت التي سكنوها بالإيجار، إلى أن استقروا أخيراً في منطقة المجتهد وسط دمشق».
كل تلك الأماكن لم تكن تفصيلاً بسيطاً في حياة وشخصية غسان كنفاني، يقول صديقه عدنان الحلو: «كان لغسان شغف كبير ببعض الأماكن التي تترك لديه انطباعات خاصة. هل ثمّة رابط بين هذا الشغف وبين حرمانه من وطنه فلسطين؟ لا أستطيع الجزم وإن كنت أميل إلى وجود رابط ما».
ريم كنفاني لا تختلف مع مقولة صديق عمّها: «كان انتماء غسان إلى الأماكن كبيراً، بدءاً من المكان الذي ولد فيه وبقي مطبوعاً في ذاكرته، حارات يافا وعكا التي ترعرع فيها في فلسطين كانت حاضرة بكل قصصه، كان يتميّز بالوصف الدقيق للأماكن التي عاش فيها، كما أثّرت فيه فترة وجوده في دمشق مثل بقية الأماكن التي سكنها، إلا أنها كانت فترة تعب له على صعيده الشخصي». «دمشق كانت قاسية على غسان مثلما كانت كل المدن العربية قاسية على أبناء الشعب الفلسطيني الذي تشرّد من بلاده، إلا أنهم أحبوا تلك البلاد التي أغنت تجربتهم الإنسانية».
كل تلك الأماكن لم تكن تفصيلاً بسيطاً في حياة غسان كنفاني وشخصيته


عام 1949، كان اليوم الأوّل الذي يخرج فيه غسّان ابن الـ 13 عاماً برفقة شقيقه غازي للعمل «عرضحالجي» أي كاتب استدعاءات على آلة كاتبة مستأجرة أمام بناء العابد (مجمّع المحاكم سابقاً في دمشق) وفي عام 1954 (حسب ما قال في حوار نشرته «شؤون فلسطينية» بعد استشهاده) وبينما كان غسّان في رحلة إلى جبل قاسيون مع رفاقه، سقط وكُسرت ساقه اليسرى كسراً مضاعفاً أقعده في البيت أكثر من ثلاثة أشهر، كتب خلالها بعض الحلقات التمثيلية التي قُدّمت في الإذاعة السورية في ما بعد، والكثير من القصص القصيرة، ورسم العديد من اللوحات، كما أنه قرأ الكثير من الكتب باللغة العربية، كما قال في أحد الحوارات الصحافية، ليقوّي من لغته.
في العاصمة السورية، أكمل غسان تعليمه الإعدادي في مدرسة الكلّية العلمية الوطنية بدمشق، ومنها انتقل إلى مدرسة الثانوية الأهلية، ثم بدأ دراسة الأدب العربي في جامعة دمشق، بالتزامن مع بدئه العمل في مدارس «الأونروا» كمعلم لمادة الفنون.
كان عام 1953 محورياً في حياته، حيث التقى فيه بالأستاذ محمود فلّاحة الذي عرّفه إلى الدكتور جورج حبش (الحكيم) أحد مؤسسي حركة القوميين العرب، والذي عمل لاحقاً على ضم غسان إلى صفوف الحركة.
خلال إقامته في سوريا، أسند إلى كنفاني تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي بدورته الأولى، وكان معظم ما عُرِض فيه من جهده الشخصي، كما عمل في جريدة «الأيام» الدمشقية، وعمل مصححاً ومحرراً في بعض الصحف، كما اشترك ببرنامج «فلسطين» وبرنامج «الطلبة» عبر أثير إذاعة دمشق، ولم تخل تلك الفترة من انخراطه في العمل نصرةً لأي قضية محقّة، حيث اعتصم مع رفاق له في مكاتب جريدة «الأيام» وأضربوا عن الطعام من صباح الإثنين 25/4/1955 وحتى مساء الأحد 1/5/1955، لتحقيق مطالب تتعلق بالمعلمين.

في بيروت: تترك المدن فينا كما نترك فيها
جاء الوقت الذي عاش فيه غسان في بيروت التي عمل فيها صحافياً، وأنتج رواياته الشهيرة فيها، ربطته بهذه المدينة علاقة خاصة، يتحدّث عنها صديق الشهيد عدنان الحلو: «لفهم ما تعنيه العاصمة اللبنانية في حياة غسان ينبغي التوقف أمام محور رئيسي في معظم رواياته، هو نظرته السلبية إلى الهجرة الفلسطينية بعيداً عن محيط فلسطين، لقد كان يحاول في جميع هذه الكتابات أن يشير إلى الطريق المعاكسة، طريق التوجه نحو فلسطين، لا بعيداً عنها، وهكذا كانت بيروت بالنسبة إليه محطة هامة جداً (جغرافياً ونضالياً) على طريق العودة إلى فلسطين. نعم كانت بيروت منطلقه في كل نشاطاته من أجل خدمة القضية أدبياً وسياسياً وإعلامياً ونضالياً بكل ما تحمله كلمة نضال من معان تُوجت باستشهاده».
وعن المناطق اللبنانية التي أحبّها كنفاني وتردّد إليها كثيراً، يقول الحلو لـ«الأخبار»: «غسان كان مدمناً على زيارة بعض الأماكن الريفية في جبال لبنان الساحرة، وكان يدأب على أخذنا معه في نهاية أسبوع العمل إلى بعض هذه الأماكن، ومنها مقهى الصخرة في بلدة شملان الذي كان يتردد عليه قبل سنوات للانفراد والاستغراق في كتابة بعض رواياته، إضافة طبعاً إلى بعض المقاهي البيروتية كـ شاليه سويس، الدولشي فيتا، والهورس شو».

ما بعد الرحيل
مع أفول دخان التفجير الذي ضرب الحازمية وأسفر عن استشهاد غسان ولميس ابنة شقيقته فايزة، أدرك الفلسطينيون والعالم العربي هول الفاجعة التي ألمّت بقضيتهم، يقول عدنان الحلو: «المعروف أن القادة الإسرائيليين الذين اتخذوا قرارهم بتصفية غسان كنفاني قد علّلوا ذلك بالدور السياسي والإعلامي والنضالي الذي كان يمارسه غسان، هذا الدور الذي امتدّ على مساحة العالم وبشكل خاص في أوروبا، حيث كان لنشاطه الإعلامي في الدول الإسكندنافية، خاصة بمساعدة زوجته آني الدنماركية، أصداء واسعة جداً، ومع ذلك أعتقد، وهذا ما كتبته مراراً، أنهم كانوا يعون تماماً حجم الدور القيادي الذي كان غسان مؤهلاً للعبه في المراحل القادمة، لا على صعيد الجبهة الشعبية فقط بل على الصعيد الوطني الفلسطيني بشكل عام، وكان غسان يقول دائماً نحن الآن لسنا الثورة، نحن نهيّئ للثورة».
يعتبر الحلو أن استشهاد غسان خسارة للقضية الفلسطينية «غير أنها ظلت وستبقى إلى زمن طويل تتغذى من عطاء غسان وحضوره المستمر... وكنت قد كتبت بعيد استشهاده، وصدّقتني الأيام والسنوات، أن لجميع الذين يغادروننا دويّاً... وهذا الدوي سرعان ما يتضاءل مع مرور الزمن، إلا مع غسان كنفاني الذي يزداد حضوراً عاماً بعد عام، وهذا ما يحصل بالفعل، ففي كل عام، ومع كل ذكرى نفاجأ بحضور لغسان كنفاني أكبر منه في الأعوام السابقة».