إبراهيم أحمد عبد الضميري، المعروف بـ«أبو خليل»، صاحب الضحكة المُميّزة والشخصية المرحة المحبّبة إلى قلوب الكثيرين من أهالي منطقة قدسيا في ريف دمشق. هو البائع الوحيد الذي لا تستطيع إلّا أن توافق على بضاعته وأسعاره وأنت مغمض العينين؛ فهو «نصير الفقراء والبسطاء»، بحسب وصْف كلّ من عرفه. داخل محلّه المتواضع، تشاهد «أبو خليل» والزبائن يطوفون حوله؛ يَزِن لهذا الخُضر، ويضحك مع ذاك، ويُرجع باقي الحساب إلى الثالث. واللافت أن الرجل يعرف جميع زبائنه ويحفظ أسماءهم وأخبارهم؛ فيسأل أُستاذة الرياضيات: «إن شاء الله ما عم يعذّبوك هالصغار بالمدرسة؟»، وينادي على شخص آخر: «شو يا أبو أحمد، هالأزعر ابنك عم يتّصل عليك من ألمانيا؟ إذا ما عم يتّصل خبرني لحاكيلك يا وأفركلو أدنو». نهاية عام 2012، هُجّر «أبو خليل» من بيته في مخيم اليرموك إلى إحدى ضواحي دمشق المتطرّفة التي تختبئ وراء جبل قاسيون. داخل قدسيا، استقرّ هو وعائلته في مشروع السكن الشبابي الذي كان شبه خالٍ وقتها، وبعض بيوته قيد الإنشاء. خلال شربه كأس الشاي الساخن «اللي بيسوى دهب لو بعزّ الصيف» كما يصفه، يتحدّث أبو خليل إلى «الأخبار» عن بدايات ما بات يُعرف بـ«سوق أبو خليل»، فيقول: «مع استقراري في منطقة قدسيا، كان لا بدّ لي أن أجد وسيلة أستأنف فيها عملي بعد خسارتي بيتي ومحلّي في اليرموك. وفي فجر أحد الأيّام، نزلت إلى سوق الهال على أطراف دمشق، واشتريت سحّارتَين من الخُضر، وعدت بهما إلى الضاحية». وضَع «أبو خليل» الصندوقَين في الشارع الرئيس لمدخل «مشروع السكن الشبابي»، وجلس خلفهما تحت أشعة الشمس الحارقة. ويضيف: «كانت الحركة خفيفة في الشارع في بداية الأمر، ولم يكن أحد من المارّة يتوقّع أن يجد في هذا المكان بائع خُضر، وتدريجياً، بدأ الناس، وخصوصاً أهالي اليرموك المُهجَّرين الذين سكنوا المنطقة، بالتداول في ما بينهم أن «أبو خليل» استأنف نشاطه على نطاق محدود في بداية مشروع السكن الشبابي».

يوماً بعد يوم
بدأ أهالي المنطقة يتردّدون على «أبو خليل» لشراء الخُضر. ومع بداية الأسبوع الثاني، أصبح يُنهي البيع في الساعات الأولى. يقول: «كثير من أهالينا وجيراننا المهجّرين من فلسطينيين وسوريين أصبحوا يأتون ويجدون الخُضر قد بيعت كلّها، الأمر الذي اضطرّني إلى زيادة الكمّيات، وهكذا شيئاً فشيئاً». ومع توالي الأيام، بدأ بعض البائعين يفترشون الرصيف ويجلسون إلى جوار «أبو خليل»؛ فهذا يبيع المنظّفات وذاك يبيع الحبوب وثالث البيض وآخر الألبسة القديمة، حتى توسّع المكان وأضحى سوقاً رسمياً يحتوي على جميع احتياجات العائلة. «في إحدى المرّات، كنتُ عائداً من دمشق، فتفاجأت بسؤال الركّاب لسائق الحافلة... واصل عند سوق أبو خليل معلم؟»، يقول «أبو خليل»، عانياً المرّة الأولى التي سمع فيها اسمه يطلَق على المكان الذي يبيع فيه، مضيفاً: «كانت صدمة بالنسبة إلي، فقد أصبحْت سوقاً ومَعلماً ولم يمضِ أكثر من بضعة أسابيع على جلوسي في الطريق لبيع الخُضر». ويتابع: «لا أعرف كيف أصف الشعور الذي اعتراني في تلك اللحظة، كان أقرب إلى فرحةٍ مع غصّة. بدأت أتساءل في نفسي هل أخبرهم أنني أنا أبو خليل».

الدراسة والعمل
«الخُبزة شيء، وحبّ الاطّلاع شيء آخر»، يقول «أبو خليل»، قاصداً بـ«الخُبزة» الرزق وكفاف اليوم. يخبرنا أنه درس في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، كما حصل على دبلوم في العلاقات التجارية العالمية باللغة الإنكليزية. يستذكر أيّام الدراسة قائلاً: «كانت لدينا مزرعة دواب في منطقة البويضة بريف دمشق، وكنتُ دائماً ما أذهب لإطعام دوابنا في البراري، فأفتح كتبي وأدرس قواميس اللغة الإنكليزية هناك بين الأعشاب الطويلة وتحت الأشجار، مستغلّاً وقتي». أمّا عن ابتعاده عن العمل بشهادته، فيلَفت إلى «(أنّني) تعوّدتُ على العمل الحرّ، وإنتاجي كان في العمل الحر مقبولاً نوعاً ما، ودراستي شكّلت لي إضافةً أخرى على الصعيد الإنساني»، مضيفاً أنه سبق أن عمل لفترات قصيرة في مهنة التدريس ولكن من دون مقابل. ويستشهد بقصّة تدريسه في محافظة الرقة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فيقول: «سافرْت إلى أخي الذي كان يقيم في الرقة، واكتشفت وجود نقص في المعلّمين هناك، الأمر الذي دفعني إلى البقاء في المحافظة وتدريس الأطفال، فبقيت مدّة عامين بدلاً من يومين كما كان مقرّراً». ويتابع: «بالطبع لم أكن أتقاضى شيئاً مقابل التدريس، عملاً بوصية والدي رحمه الله الذي قال لي ذات يوم: ما دامت الخُبزة بإيدك، لا تأخذ من طالب العلم إشي».

كلمة «مرحبا»
يتحدّث «أبو خليل» عن سرّ نجاحه كأشهر بائع في قدسيا حالياً، وفي مخيم اليرموك سابقاً، قائلاً: «احتكاكي بالناس بطريقة لطيفة، والتعامل الإنساني، وكلمة (مرحباً) التي أقولها، والاستقبال اللطيف للزبون، دائماً ما يفتح الباب للتعامل الودّي، وهو سرّ نجاح والدي (أبو العبد) المعروف في مخيم اليرموك، حيث كان سكّان المخيم يقولون ذاهبون إلى (أبو العبد) وليس إلى (دكّان أبو العبد)، بل يعتبرونه أحد أفراد أسرتهم المقرّبين، نظراً إلى أسلوبه المحبّب واللطيف في التعامل معهم، وأنا ورثت ذلك عنه». يؤكد «أبو خليل» أنه مُتعصّب للطبقات الكادحة؛ فلا يبيع الموز أو الفريز وما شابه ذلك، بل يتركها لبائعي «الخمس نجوم»، حسب وصفه، ويتابع: «أنا أهتمّ بالخُضر والفواكه البسيطة والأساسية التي تشكّل عصب الغذاء للفقراء، والسلعة التي أستطيع إدخالها إلى بيتي أقوم ببيعها، وأحاول أن أكون عوناً للمهجّرين وأنا منهم من خلال تأمينها بالسعر اليسير، وأركّز على تقليل الربح مقابل بيع كمّيات أكبر». كما يَتَّبع تقليداً قديماً منذ أيام اليرموك ورثه عن والده؛ ففي نهاية كلّ نهار، يوزّع الخُضر التي لا تجد مَن يشتريها على مَن يحتاج إليها من دون مقابل، حتى لا تبيت إلى اليوم التالي.

الخروج من السوق!
قصة خروجه من السوق كانت «بمحض الصدفة» بحسب تعبيره، وهي عائدة إلى تاريخ شروع بلدية قدسيا في تنظيم السوق الممتدّ قرابة 200 متر؛ إذ بنت أكشاكاً على جانبَيه، وطلبت من البائعين تقديم طلبات لاستثمارها، وبعد فترة زمنية بدأت بتوزيعها، واستمرّت العملية ليومَين فقط من دون أن يعلم بها «أبو خليل»، وعندما راجع البلدية وجد أن جميع الأكشاك قد تمّ توزيعها، فاضطرّ للبحث عن كشك آخر خارج السوق. وعلى رغم أنه خرج من المكان، وافتتح كشكه الخاص في منطقةٍ قريبةٍ إلى حدّ ما، إلّا أنه لا يزال يزوره بشكل شبه يومي، فلا تكفّ يداه عن ردّ السلامات التي تنهال عليه من أصحاب المحالّ والمتسوّقين، والذين يتعاملون معه كأنه «الأب الروحي وكبير المكان بل وصاحب السوق بأكمله». ولذا، ما إن يرونه قادماً من بعيد، حتى تبتسم وجوههم له، ويرفعوا صوتهم عالياً: «أهلين عمي أبو خليل»، ويدعوه إلى شرب الشاي.
أمّا العودة إلى اليرموك فـ«نحن لها»، كما يؤكد «أبو خليل»، قائلاً: «بالطبع سأعود إلى المخيم عندما يعود الأهالي وتتوفّر الخدمات الأساسية، حياتنا وطفولتنا كلتاهما هناك بين أزقة المخيم التي نالت منها الحرب ما نالت، وسأعود في أقرب فرصة تمكّنني من إصلاح محلّي وبيتي لاستئناف عملي وخدمة أبناء شعبنا». ويختم: «بالطبع... يبقى الحبّ للحبيب الأوّل».