أستطيع الآن أن أبوح بسرّ صداقتنا الأوّل. بعض الأمور العظيمة يمكن الكشف عنها بعد مرور عشرين عاماً عليها. اليوم أذكر حينما سألتني ما الذي أودّ أن أصير عليه عندما أكبر؟ لقد أجبتك وكأن الإجابة حاضرة على رأس لساني. «أريد أن أصبح رئيساً». قهقهت كثيراً، ثم عدلت جلستك أمام مقود السيارة، ودون أن تنظر إليّ أجبت: «تريد أن تأخذ مكان عرفات؟!».ليس هذا مهمّاً. سأتحدّث اليوم عن شؤونك أنت. السيارة الجميلة التي تكبرني بأعوام، مرسيديس 87، وتحاول إلى اليوم أن تقول إنها مثلك تعيش عز شبابها. سمعت أنها فقدت القدرة على التوقّف وباتت تمشي طوال الوقت، وأنك إذا ما أردت أن تركنها آخر النهار وضعت حجراً تحت دولابها ودعوت الله طوال الليل أن لا يركله الأولاد، كي تجدها صباحاً في مكانها!
لا تحزن، إنها تحاول أن تُثبت أنها قادرة على مجاراة شبابك. هل ستستطيع سيارتك أن تصمد لشهرين إضافيين حتى أجدك تنتظرني في مطار بيروت في زيارتي المقبلة؟ تماماً كما كنت تفعل عند بوابة جامعة بيروت العربية في أيّام المطر الشديد، أنهي محاضراتي وأجدك تنتظرني، وصوت أم كلثوم يعكّره صوت محرّك سيارتك.
إن أكثر ما كان يميزك أيها العمّ عاطف أنك لم تكن حارساً شخصياً لعرفات كغيرك من سائقي التاكسي في بيروت. لطالما أخبرتني أنك كنت مقاتلاً عادياً، لكني أعتقد أن العاديين هم أكثر الناس تميزاً في ذلك الزمن!
إذا ما تحدّثنا عن زمانك ذاك، أوّل ما سيخطر في بالك سلمى التي أضاعتها الحرب.
-أخبرني عنها فلا شك أنك تحب أن يزورك طيفها؟
-سلمى كانت نوّارة بيروت وبعدها أظلمت المدينة ولم يطلع عليها قمر.
-دعك من شعرك وخواطرك، لماذا لم تتقدّم لخطبتها؟ ستجيب كما العادة لأنك جبنت ثم فضلت أن تحمل البندقية وتقاتل على أن تواجه مصيرك معها!
أريد أن أنسبها إليك اليوم. لا شك أنك ستفرح إذا ما قرأت هذه السطور ووجدتني أدعوها فتاتك. أنا أؤمن أن الفتاة ملك نفسها، لكنني سأرضي ذلك الجزء الحالم منك. فتاتك يا عم كانت ترسم على جدران المدينة المهدّمة في زمن الحرب فقُتلت أليس هذا صحيحاً؟ من قتلها إذاً؟ ولماذا؟ ستقول لي إنهم قتلوها لأنها خرجت في وقت خاطئ ما كان ينبغي لها أن تخرج فيه!
أسألك الآن، لماذا يقاتل الرجال ويحملون البنادق؟
ستُدخلني إجاباتك في دهاليز السياسة، لكن الأمر أبسط وأقل تعقيداً من كل هذا، كنتم تقاتلون من أجل ألوان سلمى. حينما تظلمك الأيّام تفقد الحياة ألوانها، فنقول مثلاً كان يوماً أسود مرّاً على المدينة. هكذا يمكن أن يُختصر القتال بالبحث عن الغد الأفضل لنفسك أو لعائلتك، لمخيّمك أو لمدينتك أو حتى لبلادك.
إن فتاتك يا عم سبقتك بخطوات. أخذت ريشتها وألوانها وبدأت تمحو ألوان الدم عن حجارة صبرا وأحياء قصقص والفاكهاني، وترسم مكانها سماء زرقاء وطيوراً ملوّنة.
أسررت لي يوماً أنك لم تتخذ القرار بترك سلمى والانخراط في صفوف الجبهة الشعبيّة ومن ثم الانتقال للعيش في المعسكرات وبين الجبال. كان ذلك قرار والدك الذي أخرجك من مدرستك في الثانوية العامّة وجعلك تتطوّع مع الفدائيين!
والدك الذي كان ميسوراً لدرجة أنه لم يعش يوماً في المخيّم، قال إن الثورة بدأت وإن العودة إلى فلسطين مسألة وقت ليس إلّا.
ويوم انتهى القتال عدت مع المقاتلين الرافضين لمشهد الخروج إلى تونس. كان والدك يصارع المرض، وكانت سلمى لاقت حتفها قبل أيّام قليلة من عودتك. لا البلاد عادت ولا الأحبّة انتظروا.
بيروت وحدها ظلّت مدينتك التي لم تفارقها يوماً بعد ذلك، وأنت الذي كنت تقول لي دوماً بأنّ المكوث بجانب أضرحة الراحلين من الرفاق فضل ونعمة.