وُلدت وأنا أنتظر العودة إلى عكا، أو عكاء كما كان يحلو لجدي أن يتلاعب باسمها ويدلّلها كأنها محبوبته. كانت البلاد غرفة الانتظار الأولى التي دخلتها. ثم كان عليّ أن أنتظر بعد ذلك أشياء كثيرة. دورنا في صفوف وكالة الغوث، كي نحصل على حصتنا من الإعاشة، الطبابة والتعليم، ورأفة هذا العالم باللاجئين...وكنا ننتظر الشتاء كي نتخلص من حرارة الصيف التي يزيد من كدرها ضيق المساحة والهواء في المخيم. ثم ننتظر الصيف كي نتخلص من طوفان المياه علينا في الأزقة والبيوت. أخذ معنى الانتظار يتشكّل في الوعي لديّ، فكان فكرتي الأولى عن الحياة. وعندما هاجر أخي الكبير إلى الخليج، فرحت لأن ذلك سيعطيني مساحة في النوم، وتصبح الفرشة لي وحدي، إذ لم يعد هناك من سبب لمدّها في العرض كي تتسع، صرت أنام على فرشة عمودية، وظننت وقتها مقتنعاً أنها خطوتي الأولى إلى الأمام في طريقي لتحقيق ذاتي.
سرعان ما مللت النوم على فرشة عمودية، وقلت لو يرجع أخي فأتسامر معه قبل النوم ثم أعطيه مكاني على الفرشة أو نتشاركها معاً. لقد طحن الانتظار فرحة نومي مُرحرحاً. وصرت أمشي إلى مطار بيروت كل مساء، وأبحث في وجوه المسافرين عن وجه أخي!
وعندما أصبحت أنا ذاك المهاجر العائد في زياراته إلى بيروت بعد سنوات عدة، كان الانتظار أصعب، ولم تحد منه زياراتي الكثيرة، صار المخيم غريباً، تغيّرت الوجوه، أخذ فتى مكاني الذي كنت أنتظر فيه حبيبتي تحت شباكها، فقلت لعله كان ينتظر أختها الصغرى أو ابنة عمها مثلاً، لكن هذا لم يغيّر حقيقة أن ذلك الفتى سرق مني أجمل أشكال الانتظار التي عرفتها.
وكان أن جمعت في قلبي أصدقاء من شتى أنحاء البلاد، فصرت أعرف الغزاويين والضفاويين والمقدسيّين والثابتين في أرضنا المسماة بتاريخ النكبة «الثمانية والأربعين» ووجدت أنهم جميعاً ينتظرون، إمّا تأشيرة عبور، أو جمع شمل، منحة دراسية أو عقود عمل معلقة بسبب جواز سفر غير مفهوم، لقاء يجمع الأحبة في البلاد، صورة للصلاة في القدس تلمع في الأذهان ولو في الخيال.
قلت إذاً إن حياتنا غرفة انتظار كبيرة، ننتظر التحرير والعودة أولاً، ثم نخوض معاركنا مع الأيام، دون أن ننسى انتظار قيام الحرب. الحرب وحدها التي تجعل لانتظارنا معنى أو تسرقه فتصبّ مكانه حزناً قاسياً، يُولّد غضباً ثم انتظاراً جديداً للثأر الذي سيكون.