كان واضحاً، عقب انتهاء معركة «سيف القدس»، أنّ الاحتلال عدّل من سياساته الاقتصادية تجاه قطاع غزة، بما من شأنه أن يحقّق له أهدافاً سياسية وميدانية؛ إذ سمح بدخول أعداد كبيرة من عمّال القطاع إلى مدن العمق المحتلّ، بعد أكثر من 15 عاماً من إغلاق هذا الباب في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرئيل شارون. غير أنّ تشريع الباب أمام أكثر من 20 ألف عامل غزّي، لم يكن «جزرة» سياسة «السلام الاقتصادي» الوحيدة التي قدّمتها إسرائيل، حيث أعادت الصحافة الإسرائيلية أكثر من مرّة الحديث عن إمكانية إنشاء مصانع كبرى بمحاذاة القطاع، يُشرف عليها الاحتلال ويعمل فيها فلسطينيون من غزة. في المقابل، وضعت الجهات المانحة العديد من العقبات أمام عملية إعادة الإعمار، الأمر الذي كانت نتيجته أن «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» عجزت عن إنجاز أيّ شيء في ملفّ البيوت المهدّمة كلياً، وفقاً لما أكّدته لجنة المتابعة التابعة للفصائل. وخلال العام الحالي، الذي شهد جملة من الأحداث المفصلية، لا سيّما في مدينة القدس والمسجد الأقصى، ربطاً بنتاجات معركة «سيف القدس»، بدا جليّاً أن مسارات التعاطي الإسرائيلي مع القطاع كانت تهدف إلى «إعطاء الفلسطينيين ما يمكن أن يخسروه»، أي جملة من المكتسبات الاقتصادية التي تساهم في تحقيق نوع من الرخاء، خصوصاً لدى الطبقات التي تُعاني من التهميش (الخرّيجون، العمال، وأصحاب المصانع)، ما يسهم في صناعة طبقة اجتماعية معنيّة باستمرار حالة الهدوء إلى أبعد مدى، وبالتالي خلْق مزاج شعبي تُعزل من خلاله المقاومة. وفي موازاة ذلك، كان ملاحظاً أن المماطلة في عملية إعادة الإعمار تهدف إلى مضاعفة الضغط المعنوي على المقاومة، من خلال الحاضنة نفسها التي ساندتها بشكل مطلق خلال 11 يوماً من القتال، ما يؤدّي إلى تعقيد قرار الحرب إذا استدعت الضرورة، في حال أقدم الاحتلال على تجاوز الخطوط الحمراء، أي عملياً محاصرة قرار المقاومة داخل بيئتها، بدافعَين اثنين: الحاجة إلى الإعمار، والحاجة إلى ديمومة تحسّن الأوضاع المادّية نسبياً للسكّان.
أرادت إسرائيل صناعة طبقة اجتماعية معنيّة باستمرار حالة الهدوء إلى أبعد مدى


غير أن الاختبار لمدى نجاعة السياسات الإسرائيلية تلك جاء سريعاً؛ إذ ساهمت الخصوصية التي اكتسبها شهر رمضان هذا العام بتزامنه مع الأعياد اليهودية - التي كان مقرّراً استغلالها للسماح لآلاف المستوطنين باقتحام المسجد الأقصى، وأداء طقوس الإقامة المعنوية للهيكل عبر ذبح القرابين، تمهيداً للتقسيم الزماني والمكاني -، في إثبات أن قرار العودة إلى التصعيد، بقي خارج حساب القيود الإسرائيلية. وهنا، يؤكد مصدر في المقاومة أن الفصائل كافة بعثت برسائل جدّية إلى الوسطاء الدوليين، بأن أيّ محاولة لتغيير الواقع التاريخي للمسجد الأقصى، ستُقابل بردّ مباشر من القطاع. ومع ارتفاع حدّة التهديدات الإسرائيلية، عملت المقاومة على تسخين الميدان بشكل تدريجي من خلال إطلاق عدد من الصواريخ على مستوطنات الغلاف، وإقامة مناورات تجريبية للقدرات الصاروخية، بدا أنها رسالة اقتدار، تضمن استعداداً للدخول في مواجهة جديدة مهما بلغت الأثمان.