كثيرة هي القصص التي سمعتها في طفولتي عن حارة اليهود في دمشق القديمة، والتي كانت المحطة الأولى لأُسرتنا عند خروجها من مدينة صفد مسقط رأس العائلة، إبان النكبة عام 1948، حيث سكَنَت الحارة، حتى نهاية عام 1964، لينتقل بعدها جزء من العائلة إلى البيت الذي بناه جدّي في مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوبي العاصمة السورية. وقد بقي الجزء الآخر في الحي إلى يومنا هذا، مع الكثير من العائلات الفلسطينية التي أصبحت جزءاً من نسيج المكان. ولطالما دارت الأحاديث عن قصر شمعايا، وعن اليهود سكان الحي الأصليين، وكيف تعاملوا مع جيرانهم الجدد الذين وصلوا إليهم بسبب حركة ترفع الدين شعاراً لاحتلال فلسطين.
الشتات الأول... "يومين وراجعين"
استقبلت العائلات الدمشقية من مختلف المشارب الدينية والطوائف، الفلسطينيين المهجّرين، ولا سيما أنّ عدداً من العائلات الفلسطينية تربطها علاقات قربى ومصاهرة وتجارة مع العائلات الشامية. فنزلوا أحياء الأمين وحارة اليهود والشاغور والقيميرية وباب توما وباب شرقي والعمارة داخل السور، كما فتحت الجوامع والكنائس والمدارس الدمشقية أبوابها أمامهم.
داخل حارة اليهود في حي الأمين، نزل الفلسطينيون بداية الأمر في مدرسة "الأليانس"، وهي إحدى المدارس اليهودية الكبيرة، ومع مرور الزمن وطول الانتظار، بدأ اللاجئون بالخروج من المدرسة واللجوء إلى الأحياء القربية، حيث استأجر الميسورون منهم بيوتاً دمشقية في الأحياء القديمة، فيما لجأ آخرون إلى بيوت وقصور داخل حارة اليهود تعود لعائلات يهودية هاجرت إلى فلسطين المحتلّة بالتنسيق مع المنظمة الصهيونية.

"نحن اللي آذونا مو اليهود... الصهاينة"
داخل الأزقّة الملاصقة لحارة اليهود، تقطن رحمة عبد القادر بامية (أم خالد) اللاجئة الفلسطينية، ابنة صاحب "كراجات بامية" الشهيرة في مدينة يافا الفلسطينية، والتي هُجّرت منها رفقة عائلتها في عمر العشر سنوات، ليستقرّوا بعد رحلة طويلة داخل أسوار مدينة دمشق القديمة، في حي الأمين بالقرب من حارة اليهود.
"نحن اللي آذونا مو اليهود... الصهاينة"، بهذه الكلمات تصف أم خالد علاقاتها مع اليهود. فعلى مدى 74 عاماً عايشت سكّان الحارة الأصليين من اليهود الدمشقيين، وكوّنت معهم علاقات اجتماعية لم تختلف عن علاقتها بباقي عائلات الحي الشامي من مختلف المشارب الدينية. تستذكر أم خالد الأطباء اليهود، والذين كأن يلجأ إليهم الفلسطينيون والسوريون للاستطباب، نظراً إلى مهارتهم وشهرتهم الواسعة في مدينة دمشق، إضافة إلى صيدلية إيلي شالو الشهيرة، التي كانت تتوسّط الحي، وتكاد لا تجد موطئ قدم داخلها بسبب الإقبال الشديد عليها.
وتضيف ابنة الـ84 عاماً، التي استضافتنا في بيتها داخل الحي الدمشقي القديم: "كانت علاقتنا مع سكان الحي من اليهود جيدة جداً، ما زلت أذكر جارنا الصيدلي داوود نمرود حيث كان زوجي أبو خالد، يعاني من أمراض القلب، فنلجأ إليه عند إصابة زوجي بنوبة في الليل، ليهرع إلينا ولا يكتفي بإعطائه الدواء، بل يبقى معه إلى أن يطمئن أنه تجاوز الخطر".
احتكّ اللاجئ الفلسطيني، على مدى الأعوام، مع اليهود الدمشقيين واستطاع بناء علاقة معهم، وُصفت بالـ"ودّية" والوثيقة، التي لا تختلف عن مثيلاتها مع باقي مكوّنات المجتمع الشامي الذي استقبل الفلسطينيين وتعاطف مع قضيّتهم. فقد غدا اللاجئ الفلسطيني، مع الزمن، جزءاً من هذا النسيج، إلّا أنّ ذلك لم يمنع المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية من محاولة ضرب حالة الاستقرار الاجتماعي التي عاشها اليهود العرب في الدول العربية، ممّن رفضوا الانضمام إلى المشروع الصهيوني، وذلك بهدف الضغط عليهم للهجرة إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، خدمة لمشروع الدولة الصهيونية الدينية.
وقد بلغ عدد اليهود في سوريا أكثر من 10 آلاف، عام 1909، فكان لهم في الحارة التي سكنوها في دمشق 12 مكتباً (مدرسة)، فيما بلغ عدد معابدهم في المدينة عشرة، أشهرها كنيس "سوق الجمعة"، بحسب ما أورده عبد العزيز محمد عوض في كتابه "الإدارة العثمانية في ولاية سوريا 1864- 1914". ومن جهته، أشار شمس الدين العجلاني في كتابه "يهود دمشق الشام"، إلى أنّ أعداد اليهود في سوريا تواترت ما قبل سنوات النكبة الفلسطينية وبعدها، حيث بلغ عددهم عام 1943 حوالى الـ30 ألفاً، ولكن بحلول عام 1945 أضحى عددهم 15 ألفاً تقريباً، وبعد حرب عام 1967 بلغ عددهم 550 في دمشق وحلب.

"أناس بسطاء وطيّبون، لكنّ البعض منهم كانت لهم ارتباطات مع الصهيونية"
بهذه الكلمات بدأ اللاجئ الفلسطيني أبو جمال (62 عاماً)، وأحد سكان حارة اليهود، حديثه لـ"الأخبار". ويضيف قائلاً إنّه "رغم محاولات الصهيونية العالمية العمل على مبدأ الدين وجمع يهود العالم في فلسطين، إلّا أنّ معظم يهود دمشق رفضوا الفكرة، وأكّدوا أنّ الدين ليس له وطن، كما تمسّكوا بأنهم سوريون وأبناء هذه الأرض، بل أظهروا تعاطفاً مع الفلسطينيين المهجّرين من بلادهم، شأنهم شأن جميع الدمشقيين الذين فتحوا أبواب بيوتهم لاستقبال العائلات الفلسطينية".
يعيش أبو جمال اليوم وسط الحي الدمشقي داخل أسوار المدينة القديمة، ويسكن بيتاً دمشقياً عتيقاً ورثه عن والده الذي هُجّر من مدينة لوبية الفلسطينية. يقول إنّ هذا هو البيت الذي وُلد وكبر فيه، وانطلق منه للعمل ضمن صفوف الثورة الفلسطينية، ويعود تاريخه إلى عائلة طوطح اليهودية الدمشقية الشهيرة، وما زال يحافظ في بعض زواياه على الطراز المعماري القديم لبيوت الحي.
خضع اللاجئون الفلسطينيون للقوانين السورية، من حيث المساواة مع المواطن السوري في كلّ المجالات، ما عدا حقّ الانتخاب والترشّح للبرلمان وللإدارات المحلية. فقد ساوى القانون الرقم (260)، الصادر عام 1956، اللاجئ الفلسطيني بالمواطن السوري، من حيث الأنظمة المتعلّقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم، مع الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية، الأمر الذي سهّل اندماجهم في البيئة الاجتماعية الجديدة ووصولهم إلى المؤسّسات الحكومية، إضافة إلى أهم القطاعات الاقتصادية.
يقول أبو جمال عن علاقة الفلسطينيين باليهود الدمشقيين سكّان الحارة: "كانت تجمعنا معهم زيارات عائلية متبادلة، كنّا نهنّئهم بأعيادهم ويهنّئوننا بأعيادنا، نشارك في عزاءاتهم ويشاركون في عزاءاتنا، كعلاقة أيّ نسيج اجتماعي داخل أسوار الشام القديمة". ثم يشير بيده إلى الغرفة التي يجلس فيها، ويقول: "هذه الغرفة كانت تشهد سهرات لشبّان الحارة من مختلف المشارب، وكان الأصدقاء اليهود لا يغيبون عن هذه السهرات ولعب الشدة المحتدمة إلى ساعات الصباح الأولى".
"أناس بسطاء وطيّبون، ولم نرَ منهم أيّ أذى، إلّا أنّ البعض القليل منهم كانت لهم ارتباطات سابقة مع المنظمة الصهيونية، وهاجروا بمساعدتها إلى أراضينا في فلسطين المحتلّة، وسكنوا بيوت الشعب الفلسطيني"، يضيف أبو جمال. ثمّ يتّجه إلى خزانته وسط بيته القديم، ويخرج منها قطعة نحاسية منقوشة، ويخبرنا عن قصّة جاره اليهودي ناتان، الذي كان يعمل في الشرقيات والحفر على النحاس. "عندما نجحت في الصف السادس ناداني وأهداني هذه، صينية نقشة حفرها بيده لمناسبة نجاحي، وما زلت إلى حدّ الآن أعتزّ وأحتفط بها".
يعيش اليوم ضمن الحارة عددٌ قليل من اليهود الدمشقيين من كبار السن، وهم ممّن بقوا في المدينة، بعد موجات الهجرة، فيما يقوم أهل الحي وجيرانهم وغالبيّتهم من اللاجئين الفلسطينيين بالعناية بهم وتأمين جميع احتياجاتهم، بعد سفر أقربائهم إلى الخارج. يقول أبو جمال عنهم: "هم أصدقاء لنا جميعاً، بل هم أهلٌ أيضاً، خاصّة أنّهم تمسّكوا بجذورهم ورفضوا الفكر الصهيوني، وواجب علينا أن نرعاهم ونقدّم لهم أيّ مساعدة، وهذا هو حق الجار".