عندما ذهب وليد إلى مكتب تقديم اللجوء في لندن، كان عمره 22 سنة. وضعوا أمامه أوراقاً وطلبوا منه أن يكتب قصته. كانوا يكلمونه بإنكليزية صعبة، وكان جديداً في هذه البلاد، يصعب عليه الفهم الدقيق للغتها.جلس وأمامه طاولة مستديرة في قاعة تخيّلها مخصصة للتحقيق. عصر ظهره بالكرسي. فتح الأوراق التي أمامه. وضع اسمه في الخانة المخصصة لهذا الغرض. قرر أن يكتب باللغة العربية لأنه لا يتقن لغة غيرها، ثم إنهم دولة ولديهم الكثير من المترجمين لا شك. وبدأ:
ولدت في مخيم برج البراجنة للاجئين. كان ذلك في اليوم السابع من شهر كانون الثاني عام ستة وسبعين عند أذان الظهر، هكذا تقول أمي وعلى ذلك فإنني من مواليد برج الجدي. كبرت في المخيم المحاذي لطريق المطار القديم في بيروت، وكان والدي غائباً في أغلب الأوقات.
لاحظ وليد أنه لا يملك سوى ثلاثة أوراق بيضاء، ولو أراد أن يكمل حكايته على هذا المنوال لا بد أنه سيحتاج إلى خمسين ورقة إضافية على الأقل. لذا عليه أن يكتب ما يخدم ملف لجوئه فقط. قرر ذلك وأكمل: عشت حياتي في المخيم، ولم أشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، كنت صغيراً. كان والدي ملاحقاً لسبب لا أعلمه. أمي كانت تعمل بالخياطة، وكنا نعيش أنا وإخوتي الأربعة على عملها بمؤسسة «صامد». لم يكن لدي الكثير من الأحلام، كنت آمل فقط في أن أخرج من المخيم الذي سئمت الحياة فيه، وكنت أحلم...
ترك جملته الأخيرة ناقصة معلقة. فكر هل يذكر لهم فلسطين؟ طلب من الشرطي الموجود في الغرفة معه كوب ماء أحضره له. شربه دفعة واحدة. لا بد أنهم يعرفون أصله وفصله، فهذه دولة عظمى. هكذا حدّث نفسه ثم كتب:
كنت أحلم بأن يكون لي وطن، فأنا ولدت لاجئاً، لا أحمل جنسية حقيقية. والدي يقول إنه من عكا، وإن دولتكم كانت هناك منذ زمن، انتدبت المدينة، ثم سلمتها للعصابات الصهيونية قبل أن تخرج. أمّا أستاذ التاريخ في مدارس «وكالة الغوث» فحدّثنا أنكم قسّمتم المنطقة في عام لم أعد أذكره، وأعطيتم وعوداً أخرجتنا من المعادلة. ببساطة لقد نسيتمونا، هكذا تقول أكثر الحكايات تسامحاً معكم.
عندما وصل ساحة ترافيلغير سكوير، كان الناس يطالبون بتحرك عسكري ضد روسيا، وينادون بحق العمل للأوكرانيين


توقف عن الكتابة مرة أخرى، وهنا اكتشف أنه لا يملك حالة لجوء عادية، وشعر أن الدولة معنية بالتعويض عليه. لم يكن قد فكر بتلك الحيثيات قبل اليوم، وحينما جاء إلى مقر اللجوء في لندن كان ينوي أن يستجدي الدولة من أجل إعطائه حق العمل والإقامة في هذا البلد فقط. إلا أنه تورّط في ما كتبه، أحس أن قلمه كرج على الورق من دون أمر منه، ثم اقتنع بنصه قناعة تامة.
لكنه عاد وشطب كل ما كتبه على الورقة البيضاء دفعة واحدة من غير تفكير. شعر أن يده اتخذت القرار لا دماغه.
انتبه له الشرطي، اقترب منه، دقق في الورقة، قال مستغرباً: لماذا شطبت فقراتك؟
أجاب وليد: أنا لا أعرف الكتابة. نطق لسانه وكأنه يعرف الإنكليزية ويتحدّث بها بطلاقة! ثم وقف ومضى إلى خارج الغرفة.
خرج سعيد من مكتب اللجوء، وبقي في هذه المدينة 12 عاماً بعدها حتى حصل على حقه في الإقامة فيها بشكل شرعي. كان عليه خلالها أن يبتعد عن أهله، أن يكبر وحده، وينتظر وحده قرارات مكتب اللجوء، كي يحصل على أوراق في هذه البلاد. لقد ظن أنه نسي كل تلك المشاعر المؤلمة واعتاد غربته، ما الذي أعاد له كل ذلك على غفلة؟
في صبيحة يوم السبت الخامس من آذار، كان وليد الذي أصبح اليوم أبو هشام، يمشي في حديقة غرين بارك يتابع أخبار المعارك في أوكرانيا على هاتفه كغيره من الناس. تلفته الأعلام الأوكرانية من حوله ورسوماتها التي لونت وجوه الناس في طرقات لندن. وعندما وصل ساحة ترافيلغير سكوير، كان الناس يطالبون بتحرك عسكري ضد روسيا، وينادون بحق العمل للأوكرانيين، وليس باللجوء، ويصرخون بهتافات تقول إن بريطانيا ترحّب بالأوكرانيين. ثم تنطفئ موجة الصراخ، ويعقبها صمت وصلاة على الضحايا.
بدأ تركيز أبو هشام يتلاشى تدريجياً عن التظاهرة. مر أمام عينيه شريط لجوئه الطويل في هذا البلد، وعمره الذي مضى بعيداً عن أهله، ثم خطرت له حرب غزة الأخيرة، وأصدقاؤه الذين لاحقتهم اللوبيات بعد أن نظموا مسيرات ضد آلة الموت الإسرائيلية في الساحة نفسها.
وحينما عاد مساء إلى منزله، كانت رياح أواخر الشتاء تهب في الأنحاء، وكان ابنه الصغير يشاهد رسوماً متحركة، وزوجته نائمة متعبة من يوم عمل طويل. تذكّر وجه أمّه. حمل منديلاً كانت قد ربطت به حقيبة سفره عندما غادر بيروت لأوّل مرة، حتى لا تضيع الحقيبة ولا يخطئ المسافرون الأغيار بها. أحس بسخونة في قلبه، كأنه يحترق، وبكى... بكى كثيراً.