مع ارتفاع نسبة الوعي العالمي لـ«جنون» سياسة العقوبات الغربية في ظل التصادم الأخير بين روسيا و«الناتو»، تبرز حدّة المقاطعة الأوروبية والأميركية لروسيا، والتي امتدّت إلى الرياضة والأدب والتعليم الجامعي وصولاً إلى القطط. هذه السهولة في إقصاء روسيا عن الغرب طرحت أسئلةً جوهرية حول مفهوم مقاطعة إسرائيل والقيود السائدة حول تطبيقها في الوعي العربي. إنّ نقاش مفهوم مقاطعة إسرائيل ليس من باب الترف الفكري، بل هو محاولة لتطوير وعي وطني ينتج عنه سلوك سليم في تعامل الإنسان العربي مع تجربة المقاطعة، خصوصاً في ظل الانتشار العربي في دول النفوذ الصهيوني، وما يقابله من انتشار صهيوني علني في المنطقة العربية، ما يزيد من فرص الاحتكاك العربي مع الصهاينة في ظلّ عمل إعلامي دؤوب لكيّ الوعي وتشويه المفاهيم.

التناقضات
من الركائز الأساسية للدعاية الإعلامية الصهيونية هي سياسة قلب الحقائق، أو «السببية المختلّة»، والتي تُبنى على تحويل النتيجة إلى سبب وتحويل ردّ الفعل إلى فعل. نرى هذا بوضوح في تحويل مقاومة الاحتلال إلى «إرهاب»، أو في تصوير صواريخ المقاومة العربية على أنها «هجوم» منطلق من فراغ «الكره والتخلّف»، بعيداً عن التسلسل الحقيقي للأحداث ووقائع التاريخ. نفس السياسة يعتمدها العدوّ في تشويه علاقات القوّة والسببية القائمة في تجربة المقاطعة. ففي كلّ النقاشات الداخلية والخارجية، يتمّ طرح المقاطعة العربية لإسرائيل بأنّها فعل عنيف «غير ضروري» ويحتاج إلى تعليل. من جهة، تُطرح الورقة الأخلاقية تحت شعار «الإنسانية» لزرع الشكّ في عقل الإنسان العربي باحتمالية ممارسته ظلماً ما، ومن جهة أخرى، تُستقدَم ورقة التعجيز للتشكيك في جدوى مقاطعة عدو «يتحكّم بالعالم».
الغريب هو أنّ المنطقَين المطروحين لردع المقاطعة يتناقضان في المنطلق. فالأوّل يطرح العدوّ بصورة الفرد المسكين الذي لا ذنب له، ما يجعل الطرف المُقاطِع في موقع قوّة مُطلقة تسمح له بإنزال عقوبة شديدة تصل إلى مرحلة الظلم. بالمقابل، التشكيك في جدوى المقاطعة ينطلق من تصوير العدوّ قدراً يستحيل تجنّبه، ما يجعل الطرف المُقاطِع ضعيفاً وموهوماً.

الواقع: علاقات القوة في تجربة المقاطعة
بالإضافة إلى ذلك، إنّ أي نقاش حول المقاطعة لا ينطلق من تحديد موازين القوى هو في أحسن الأحوال نقاشٌ عقيم. فمقاطعة إسرائيل وداعميها فعلٌ يرتبط نظرياً بمستوى الوعي الفردي والشعبي، كما يرتبط عملياً بمقدار القوة العسكرية-السياسية. إذا ما قلّبنا صفحات التاريخ سريعاً، سنجد أنّ النقاشات حول المقاطعة خلال حقبة الثورة الفلسطينية كانت نادرة. لماذا؟ لأنّ الوعي الشعبي الفلسطيني والعربي المتجمهر حول مفهوم الكفاح المسلّح لم يكن يرى أي إمكانية أو غرض من تطبيع وجود إسرائيل - كلّ إسرائيل، ما يفقد النقاش أساسات وجوده، حتى على صعيد المصلحة الآنية. وهو الوعي نفسه الذي نراه اليوم داخل بيئات المقاومة في المنطقة، والممتدة من صنعاء إلى غزة. فإسرائيل ليست خياراً في هذه المجتمعات، وكلّ ما يتعلّق بها مرفوض وخارج النقاش. في الحالتين، ورغم اختلاف التجارب، تشكّل القوة المجتمعية الحاضنة للقوة العسكرية العامل الرئيسي في تبسيط قضية «المقاطعة»، دون الحاجة إلى اختلاق التعقيدات.
إذا ما قلّبنا صفحات التاريخ سريعاً سنجد أنّ النقاشات حول المقاطعة خلال حقبة الثورة الفلسطينية كانت نادرة


أمّا اللجوء إلى تبرير التواصل أو تسخيف المقاطعة، فهو طريق الفئات المهزومة، التي تستسلم لواقع المستعمِر وتصبح جزءاً من استمراريته. وهذه الفئات تنقسم إلى فصائل سياسية استسلمت للعدوّ وقرّرت التحوّل إلى ضفّته، ما يجعلها تبرّر «التواصل» من بوابة الخدمات، أو قد تتكوّن هذه الفئات من أفراد يبحثون عن خلاصهم الفرديّ من منطلقٍ دونيٍّ انهزاميّ لا يُشرِك في عبادته الغرب الأبيض. في الحالتين، تشكّل الهزيمة العامل المشترك الذي يدفع الطرف المهزوم إمّا إلى البحث عن ذاته في عباءة العدو، أو إلى تعميم الهزيمة على الجمهور من خلال طرح نقاشات حول «أفضلية المقاطعة على الصواريخ»، على سبيل المثال. والردّ على هذه الطروحات لا بدّ أن يكون واضحاً وبسيطاً: بأنّ «الصاروخ» هو ركيزة فعل المقاطعة. فبدونه تبقى المقاطعة فعلاً بطولياً فرديّاً، وبوجوده، تتحوّل المقاطعة إلى فعلٍ بديهيٍّ جماعي. وفي حساب الجدوى، فالبديهيات الجماعية أشدّ أثراً من البطولات الفردية.

الوضوح
بناءً على ذلك، لا بدّ لنا أن نُعيد ربط فعل المقاطعة بميزان القوى القائم على الصعد كافة. فعلى الصعيد الأخلاقي، يبقى فعل المقاطعة فعلاً أخلاقياً ممكناً ضدّ العدو في ظلّ غياب آليات الفعل الأكثر نجاعة. وفي مقاطعة كلّ ما يرتبط بالعدو دفاعٌ عن الوجود، لأنّ الفرد الصهيوني كالبضاعة الصهيونية كالفكرة الصهيونية، عجلاتٌ في آلة الحرب المدعوّة إسرائيل. أمّا على الصعيد السياسي، من الضروري قياس جدوى «المقاطعة» انطلاقاً من ميزان القوى القائم. فمقاطعة المُحاصِر للمُحاصَر اعتداء، أمّا مقاطعة المُحاصَر للمُحاصِر أضعف الإيمان. كما ومن غير المعقول إدراك فعل المقاطعة خارج سياق القوّة والأثر. فعلى سبيل المثال، مجاهرة الغرب بمقاطعة روسيا تنبع من قناعة الطرف الأوّل بهيمنته على الاقتصاد العالمي، ما يجعل قراره في مقاطعة روسيا مؤذياً، كما أراد لهذه المقاطعة أن تؤدّي دورها في أذية فنزويلا وكوريا الشمالية وإيران وسوريا والعراق وليبيا وفلسطين. اعتقاد الغرب بتحكّمه المُطلق في مفاصل الاقتصاد والسياسة يجعل من المقاطعة أداة أذيّة للشعوب والحكومات الرافضة لهيمنته ولقواعد اللعبة التي رسمها في العالم. ومن هذا الباب، فإنّ أي فعل خارج عن هذه القواعد يتحوّل حُكماً إلى فعلٍ مُحاصَر، مُلاحَق ومُقاطَع. هذا ما رأيناه مثلاً مع البطل العربي الجزائي فتحي نورين، حين مارس حقّه في مقاطعة اللاعبين الصهاينة، فتمّ إقصاؤه وتغريمه، أي مقاطعته. هذا الثمن المرتبط بمصير الإنسان وطموحاته وصولاً إلى كرامته، هو ما يواجهه أي إنسان عربي يقرّر مقاطعة أي فاعلية يحضرها الصهاينة.
وهذا ما يدفعنا إلى استنتاج جوهري: نحن مُحاصَرون أينما نذهب، لأنّ وجودنا بهويتنا وحريتنا هو تهديدٌ مباشر لمشروع إبادتنا. لهذا وأكثر، لا بدّ لنقاشات «جدوى المقاطعة» أن تختفي من وعينا، على أمل استبدالها بنقاشات أجدى حول الفعل الأجدى على درب تحرّرنا. وها هو الواقع يُثبت لنا يوماً بعد يوم أنّ الهيمنة الغربية ليست قدراً، وأنّنا مهما بلغت التحدّيات أمامنا، تبقى ممارستنا للفعل الوطني على الصعيد اليومي كـ«البحصة التي تسند صخرة» تعمل على تحطيم آلة الاستعمار. والفعل الوطني اليومي لا يقتصر فقط على التزامنا بالمقاطعة، بل لا بدّ له أن يُستكمَل بتبنّي مقاومتنا العربية والالتفاف حولها، لأنّ صمودها وتعزيز قواها هي السطور لكلّ الكلمات التي تُكتَب في حرّية البلاد.