كان سعد كثير النظر إلى عينَي سيده (جده)، يخبره كبار العائلة أن أبا خليل فقد بصره تماماً بعد موت أمّ خليل، لكن سعد لا يصدّق ذلك. عندما كان طفلاً لطالما دقّق في وجه جدّه وفي عينيه الذابلتين. كان يفتح كفّ يده على آخرها ويرفعها صارخاً كم إصبعاً لديّ؟ يرد أبو خليل خمس فيضحك سعد «انت بتشوف».كيف تعرف الأشياء يا جدّي دون أن ترى؟ يسأل سعد. يجيب أبو خليل بأنه احتفظ بصورة لأمّ خليل في خياله فقط وهي التي تدله على الأشياء. يتوقف عن الكلام. يسعل ثم يضيف: «أنت أعرفك من رائحتك لأنك لا تأكل اللحم، وأعرف والدك حينما يقترب مني من ذقنه الخشنة أمّا عمّك نبيل فلا أعرفه أبداً».
تفلت دمعة من عينيه عند ذكر ابنه الذي ابتلعته الغربة، ويرتل بيتاً من العتابا «يا بلاد أمريكا ما أبعد مداك، ريتك تنهدمي ع الي بناكِ».
يلتف الأطفال والكبار حوله يستمعون إليه. كانوا جميعاً حاضرين وكان الليل مقمراً وكانت حكايات الجد الذي أخذ مكانه في الذاكرة.
لم يتكلم أبو خليل في تلك الليلة الباردة عن حياته في فلسطين وهجرته منها كما اعتاد دائماً. اختار لسبب ما، أن يحكي عن رفيقة عمره أمّ خليل. قال إنها كانت ابنة عمّه، وقد أُعجب بها أيام الغابسية، كانت أجمل بنت في البلاد، والبلاد أينما وردت على لسان لاجئ تعني بالتأكيد فلسطين.
سعد الذي لم يملك حظاً كافياً ليرى وجه جدّته، قاطعه في بداية حديثه، «ايش أحلى شيء كان في ستي؟».
ابتسم أبو خليل، الممدّد على سرير وُضع على سطح المنزل خصيصاً له، وأجاب «شعرها الذي كان يصير ذهباً في الليالي التي يكتمل فيها القمر».
قال إنها كانت ابنة عمّه، وقد أُعجب بها أيام الغابسية، كانت أجمل بنت في البلاد، والبلاد أينما وردت على لسان لاجئ تعني بالتأكيد فلسطين


نظر الجالسون إلى السماء، وكان القمر بدراً، يتلاعب بين الغيوم في سماء الرشيدية جنوب لبنان. يظهر ويختفي. أخبر سعد جدّه أن القمر في هذه الليلة بدر.
ثم يسأله حسن حفيده الآخر «لو قُدّر لك أن تبصر فترى شيئاً واحداً في هذه الدنيا ماذا تختار؟».
سرح أبو خليل في البدر حتى ظنّه الأطفال أنه يراه وأجاب... «البحر». قال متنهداً، عاصراً كفّ يده كأنه يمسك بها سرّاً. كانت إجابة غريبة. ظن بعضهم أن إجابته ستكون وجه أم خليل، وبعضهم قال في نفسه إنه سيختار البلاد التي لا يملّ من ذكرها.
وهنا أكمل أبو خليل، في زرقة البحر حياتي كلّها. فلسطين امتداد بحر الرشيدية. كنت أشرب ماءه المالح مع أم خليل فيصير طعمه عسلاً صافياً.
قفز سعد، «هل كنت شاباً يا جدّي، ومتى صرت عجوزاً إذاً؟».
لقد كبرت في بيروت، على خطوط التماس التي كانت تفصل المدينة عن نفسها. ازدادت تجاعيد وجهي وثقلت همّتي. كما هرمت بوفاة جدتك.
يذكر سعد كل تلك الليالي، ويقول إنه ومنذ وفاة جدّه يلازمه شعور واحد... «البرد». يحس أن جسده مليء بالثقوب، والبرد ينخر عظامه طوال الوقت. يروي أنه حينما غادر لبنان إلى أوروبا شارك في محاضرة أكاديمية ذكر فيها أحدهم حق العودة ووصفه بحلم اليائسين في المخيمات.
استفزّت العبارة سعد. يقول إن جدّه الذي قضى لم يكن حلماً، كان حقيقة كاملة، ومنذ ذلك اليوم صار يكتب له دائماً... غداً، عندما تنتهي من نومك الطويل، ستعود إلى دكانك في المخيم، وتعود معك أمّ خليل، ناجية من إحدى غارات عناقيد الغضب على أرضها في الجنوب، كامرأة من خيال لا يُغيّبها الموت، فرائحة خبزها لا تزال تملأ حواري المخيم وعتابا حنجرتك تذهب مع هواء المخيم جنوباً إلى فلسطين.
أبو خليل حقيقة كاملة تماماً كما البلاد!