أبو أحمد فؤاد... حامل الفكرة وحارسها
![أبو أحمد فؤاد... حامل الفكرة وحارسها](https://media.al-akhbar.com/store/archive/image/2025/1/24/6141d120-70d0-41d4-8651-84869d8cffaa/2.jpg?width=1200&format=webp)
«محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً. لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي… إن الاستعمار لا يرفع يده إلا إذا جعلت السكين في رقبته» ــــ فرانز فانون
«هذا العدو لا يمكن أن نستخلص منه أهدافنا الوطنية، وحقوقنا الوطنية، إلا بالمقاومة المسلحة والانتفاضة الشعبية» ــــ أبو أحمد فؤاد
أيام قليلة تفصلنا عن توقف نبض قلب القائد الوطني والقومي البارز أبو أحمد فؤاد (داود أحمد مراغة) في الساعات الأولى من يوم 17/1/2025 في أحد مشافي العاصمة السورية، دمشق. سقط الجسد الذي واجه الموت عشرات المرات، في قواعد الفدائيين في الأردن، خاصة في القطاع الأوسط بالأغوار، وفي جنوب لبنان، بمواجهة الغزو الاستعماري الصهيوني، وعلى امتداد مساحته خلال المعارك التي خاضتها قوات الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية مع القوى الانعزالية الفاشية المتحالفة مع كيان العدو الإمبريالي / الصهيوني. انهار الجسد الذي فتك به المرض العضال على مدى ثمانية أشهر، رغم الجهود المضنية التي بذلها الأطباء، والأهم، الحالة النفسية الاستثنائية التي قاوم بها «أبو أحمد» الورم الخبيث.
أكتب اليوم بالدمع عن الأخ الكبير، والصديق الصدوق، والرفيق الأحب والأغلى، لعقلي. برحيله، سقطت مساحة كبيرة من الروح، لأن الراحل كان - وسيبقى - لي، مُعَلماً في مدرسة الكفاح الوطني والقومي، وأيقونة إنسانية ونضالية تعيد إلى الأجيال روح القادة الأوائل ومُثلهم: جورج حبش، وديع حداد، أبو ماهر اليماني.
ترجّل فارس الكلمة والموقف الثوري، المقاتل بالبندقية، والإرادة الفولاذية، المسكون بفلسطين، والأمة، وقضايا التحرر، والمعذبين في الأرض من الكادحين والمهمشين، سقط الجسد لكن الفكرة التي حملها، تتجذر وتتمدد، كما نعيشها في غزة العزة، الحرة، وفي مخيمات الضفة المقاتلة ومدنها. أمّا القدس، زهرة المدائن، التي سكنت عقله، وشغاف قلبه، فهي الحاضرة دائماً في وجدانه.
النشأة والمسار
وُلِد داود أحمد مراغة عام 1942 في بلدة سلوان، الواقعة في محيط مدينة القدس، والملاصقة للمسجد الأقصى، لأسرة فلاحية كادحة، ارتبطت بالأرض، بجذور الانتماء الوطني العميقة، كما ظهر في أبنائها الشهيد الأسير إسحق موسى مراغة (أبو جمال) (1941 - 1983) داخل المعتقلات الصهيونية، المناضل في صفوف حركة القوميين العرب، ومن أبرز المؤسسين للجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في القدس والضفة الغربية. أما الشقيق الأكبر للشهيد «أبو جمال»، فهو القائد الوطني، والعسكري البارز سعيد موسى مراغة (أبو موسى) (1927 - 2013) في قوات العاصفة / حركة فتح، الذي استلم لاحقاً أمانة سر اللجنة المركزية لحركة فتح / الانتفاضة.
التحق الفتى داود بسن مبكرة بتنظيم حركة القوميين العرب، ما أدى إلى اعتقاله بضعة أشهر، ليُصبح بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967، أحد المؤسسين للجبهة الشعبية، وأبرز قياداتها العسكرية، خاصة بعد عودته من دورة عسكرية حصل عليها في مصر الناصرية. وقد لعب دوراً بارزاً في بناء القواعد الفدائية في غور الأردن، وقاد دوريات عدة داخل الوطن المحتل. بعد أحداث «أيلول الأسود» في الأردن، انتقل إلى لبنان، وأسهم بشكل واضح في بناء القدرات العسكرية لقوات الجبهة على مدى سنوات عدة، مستنداً إلى تجربته الميدانية، وعلومه العسكرية الأكاديمية خلال دراسته في الاتحاد السوفياتي.
لعب القائد العسكري للجبهة دوراً أساسياً في قيادة التشكيلات العسكرية في لبنان أثناء التصدي للغزو
لعب القائد العسكري للجبهة أبو أحمد فؤاد دوراً أساسياً في قيادة التشكيلات العسكرية في لبنان أثناء التصدي لغزو جيش المستعمرة / الثكنة في عامي 1978 و1982، وهنا أقتبس شهادة أحد المناضلين اللبنانيين التاريخيين في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ابن مدينة بعلبك حسن كسر (أبو عبادة): «...وقد نقل وقائعَ الصمود المشرِّف الرفيقُ الأمينُ العامّ للجبهة الشعبيّة، الدكتور جورج حبش، وذلك أثناء زيارته بعلبك بعد نهاية العدوان. وقال حرفيًّا إنّ الرفيق قائدَ قطاع الجنوب، أبا أحمد فؤاد، ونائبَه الحبيبَ ماهر [اليماني]، كان لهما الدورُ الأبرزُ في ذلك التصدّي، خصوصًا بعد أن تخلّت بعضُ "القيادات" عن مواقعها [في غزو عام 1982]. وكذلك أخبرنا أنّ أبا عمّار، عندما زار الجنوب، التقى الرفيقيْن المذكوريْن، وقبّل رأسيْهما، وقال: "بوركتما، حفظتما الكرامةَ ورفعتما رأسَنا"»**.
بعد خروج قوات المقاومة المسلحة، تنقل القائد أبو أحمد فؤاد بين تونس وسوريا التي استقر فيها حتى وفاته، شاغلاً مهمة قيادة دائرة العلاقات السياسية، سنوات عدة، وصولاً إلى المؤتمر السابع للجبهة 2013 الذي انتخبه نائباً للأمين العام للجبهة الأسير في سجون العدو أحمد سعدات.
انعقد مؤتمر الجبهة الثامن في دمشق في أيار / مايو 2022، بعد تأخير عدة سنوات بسبب «ظروف إقليمية ووطنية، تبعاً للأوضاع في الضفة الغربية والحملة المستمرة للاحتلال هناك ضد الجبهة وقياداتها»، حسب ما جاء في مواقف رسمية للجبهة. وقد انتخب المؤتمر مكتباً سياسياً، حمل تجديداً واسعاً في عضويته، استناداً إلى النظام الداخلي، وكذلك نائباً جديداً للأمين العام سعدات. وقد لعب النائب السابق دوراً بارزاً في التحضير للمؤتمر، وكان صاحب التوجه في إحداث تغييرات واسعة في الأطر القيادية من أجل ضخ دماء جديدة فيها، وخرج من المكتب السياسي، محتفظاً بعضوية اللجنة المركزية العامة، مترئساً لجنة العلاقات العربية والقومية فيها.
محطات في المسار
شارك الراحل الكبير بعدد كبير من الوفود السياسية للجبهة التي ترأسها المؤسس الحكيم جورج حبش، لعدد من الدول الصديقة، أذكر منها كوبا، والأقطار الشقيقة: الجزائر، سوريا، العراق. كما شارك في وفد قيادي للجبهة إلى فييتنام مع القائد الراحل أحمد اليماني (أبو ماهر). وكان عضواً في وفد القيادة العسكرية للمقاومة الفلسطينية الذي زار الصين الشعبية والتقى خلالها شو إن لاي رئيس الوزراء. وكان لي حينها شرف الحضور مع الصديق والقائد «أبو أحمد» لجلسة الحوار التأسيسية بصفة «مستقل» لاجتماعات «الجبهة العربية التقدمية» كانون الأول / ديسمبر 2015 في العاصمة التونسية، ومشاركتنا (أبو أحمد وأنا) في الاجتماع الأول لقيادتها / المكتب التنفيذي، الذي انعقد في تموز / يوليو 2017 بتونس، وعدد من اجتماعات المكتب في بيروت، حتى مغادرتي إطارات الجبهة في أيلول / سبتمبر 2019.
كما إننا ترافقنا سوية لحضور ملتقى القائد الراحل عبد الرحمن النعيمي / سعيد سيف السنوي، الفكري والسياسي، تلبية لدعوة رفاق الراحل النعيمي في البحرين، الذي يعقد في بيروت بشهر ديسمبر / كانون الأول كل عام، باستثناء مدة جائحة «كورونا»، والأوضاع المتوترة التي عانى منها لبنان بسبب اعتداءات العدو الصهيوني.
الإنسان النبيل، المتواضع، الزاهد
إضاءتي على مشاركتي ومرافقتي للإنسان النبيل في تلك المؤتمرات واللقاءات، هدفت بشكل أساسي، إلى الإطلالة على الجانب الشخصي لفقيدنا الكبير، يُضاف إليها، تصرفاته وسلوكياته وعلاقاته الواسعة مع القوى السياسية والكتّاب والمثقفين وأبناء شعبه، الذين كانت أبواب مكتبه مُشرعة لهم، لسماع همومهم وملاحظاتهم. كان حريصاً على زيارة رفاقه في المخيمات في مناسباتهم الاجتماعية، وكنت أسمع عدداً من الشباب، ينادونه «يا با».
عندما اتصل بي صديق في اليوم الثاني للوفاة، مُعزياً بالفقيد، قائلاً: «الله يرحمه رفيقنا، تضلك بخير، أعرف مدى ترابطكما، كن بخير، أمثاله يبقون... بتحب تكتب شي عن أبو أحمد للأخبار؟». شكرته، مضيفاً: أحتاج بضعة أيام لاستيعاب الصدمة، وأعدك بأنني سأكتب. تحدثنا عن جانب من حياة الراحل، فوجئ الصديق عندما قلت له في سياق حديثنا إن فقيدنا لا يملك بيتاً، وانتقل من الشقة التي استأجرها منذ سنوات عدة، لأن صاحبها طلب زيادة الأجرة، وعثر له «الشباب» على شقة أخرى بسعر مناسب، انتقل إليها منذ شهرين تقريباً. أصابت الدهشة الصديق، مُعقباً: معقول! أجبته: هذا هو أبو أحمد.
خاتمة
عاش القائد النبيل وهو مسكون بالحيوية، والعطاء، وفي الأشهر الأخيرة كان يُصر، بعد مغادرته المشفى وجلسة العلاج الكيماوي، على الذهاب إلى مكتبه لمتابعة الملفات وقراءة التقارير. كانت الحياة بالنسبة إليه، كما كتب رفيقه الشهيد غسان كنفاني: «لا قيمة لها قط إن لم تكن، دائماً، واقفة قبالة الموت».
ما يخفف عني في مصابي الجلل، أنني عشت العشر سنوات الأخيرة وأنا قريب جداً من رجل ولا كل الرجال، وهنا أستعير من المثقف المشتبك، والأديب المُبدع غسان كنفاني كلماته: «أن يكون الإنسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطن؛ شيء ثمين لا يُمكن الاستغناء عنه!».
سلام لك وسلام عليك وأنت ترقد بسلام بعد أن أدّيت الأمانة، وزرعت في الأرض أفكاراً وبنادق وسواعد تحمل بيارق الانتصار.
* كاتب وسياسي فلسطيني
** مجلة الآداب اللبنانية، الموقع الإلكتروني – ملف «القائد ماهر اليماني»، مقالة بعنوان: «زمن العز»