دور حروب الوكالة في تغذية التراكم عبر الإبادة
السياق الدولي للحرب الحاليّة، والذي لا تَظْهَر ديناميّاته كما يجب بفعل وطأة الحدث وراهنيّته، ليس أقلَّ أهميةً من نظيره الإقليمي. لا يعود ذلك فحسب إلى موقع إسرائيل داخل المنظومة الإمبريالية الغربية، بل أساساً لأنّ العنف الإبادي، الذي باتت تمارسه على نحو منهجي، منذ عامٍ على الأقلّ، يستحيل فهمه، أو حتى تحليله، ما لم يُوضَع ضمن بنية أوسع للعنف الوظيفي الغربي، الممارَس عبر نطاق أوسَع عادةً وعبر أدوات أكثر تعقيداً حتى من القوّة العسكرية الصهيونيّة.
سياق العسكَرة في أوكرانيا
في المدة التي سبَقَت اندلاع الحرب في غزّة، أخَذَ هذا العنف أشكالاً مختلفة، وعبر نطاقات جغرافية وجيوسياسية غير معتادة؛ أي خارج الإطار المعتاد للحروب التي تغذّيها آلة الحرب الإمبريالية الغربية. فبسبب الصراع الغربي المُستحكِم مع روسيا، على ضوء ممانعتها إطباق «الناتو» على مجالها الحيوي، شرقاً باتجاه أوكرانيا، أوكِلَ إلى الحكم الناشئ في كييف، غداة فشل اتفاقيات مينسك الرباعيّة لتسوية الأزمة، قيادة صراع بالوكالة عن الغرب ضدّ موسكو. أفضى ذلك، ليس فحسب إلى تدخّل روسيا عسكرياً وجيوسياسياً على النحو الذي نراه الآن، بل أيضاً إلى تحويل أوكرانيا إلى بؤرة لمركزة السلاح والتكنولوجيا العسكرية الغربيين، لا نكاد نجد لها مثيلاً في العالم إلا في إسرائيل. تركيز السلاح الغربي بهذه الطريقة، قاد بدوره إلى جعل العنف الحربي المسلّح، المواجه للآلة الحربية الروسية، غير مسبوق في شدّته؛ أي بالنسبة إلى دولة إقليمية صغرى لا يتعدّى حجم إنفاقها الدفاعي قبل الأزمة نسبة الـ7% من ناتجها المحلّي. وحتى لو لم يحصل تعادُلٌ في القوّة العسكرية مع روسيا، بعد زيادة وتيرة الإنفاق على الحرب من الديون والمساعدات الغربية، بحكم تقدّم الصناعة العسكرية الروسية، فإنّ هذا النوع من العسكرة يبقى خارج إطار أيّ تطوّر يمكن فهمه، حتى بالنسبة إلى صناعة الحرب إمبريالياً. الدور الذي أُوكل إلى أوكرانيا بهذا المعنى تجاوَزَ، بفعل هذا التضخُّم غير المسبوق في الإنفاق الحربي، وظيفتَه الأساسية في استنزاف القوّة العسكرية الروسية بالوكالة عن الغرب، إلى تشكيل نموذج مستقبلي يمكن احتذاؤه عند الحاجة إلى الحروب الإمبرياليّة الجديدة.
حدود حروب الوكالة
في هذا النوع من الحروب التي تنحو فيها الإمبريالية إلى التخفُّف من الأكلاف المباشِرة على اقتصادها وبنيتها الاجتماعية، لا تكون الغاية بالضرورة هي هزيمة الخصم عسكرياً، أو حتى استنزافُه ميدانياً، بل نقل الصراع في مرحلة لاحقة إلى وجهة تتناسب مع طبيعة الحرب المقبلة. أي من المواجهة مع الدول التي تتعذّر هزيمتها بفعل حجم إنفاقها على التسليح، إلى الفاعلين غير الدولتيّين الذين لا يملكون معادِلاً لهذا الإنفاق، وهو ما يجعل مواجهَتهم ممكنة أكثر، من منظور المقاربة الإمبريالية، لحروب ما بعد أوكرانيا. على أنّ ذلك لم يفضِ، لا في غزّة حيث الاختبار الفعلي لهذا الشكل من التدمير عبر الحرب، ولا في لبنان بعدَها، إلى هزيمة الخصم، عبر دفعه إلى الاستسلام، كثمن لحجم الاجتثاث الحاصل بحقّ البيئات المدنيّة التي تحتضنه.
ثمّة، بهذا المعنى، مأزقٌ مزدوج وقعت فيه مقاربة التدمير عبر الحرب، فلا هي استطاعت، عبر تكديس السلاح الغربي وفقاً للنموذج الأوكراني، مواجهة الدول التي تتميّز جيوشها بالاحترافية العالية في القتال، حتى في المدن، حيث تتعطّل غالباً فاعلية الجيوش النظاميّة، ولا هي قدِرَت، بعد الهزيمة الوشيكة أمام روسيا، أن تسحق حركات مقاومة مسلحة مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، بعد أشهرٍ طويلة من الحرب. وذلك بفعل عجز إستراتيجية التدمير عن إسكات الفاعلية القتالية للصواريخ والمسيّرات ومضادّات الدروع، وصولاً إلى الالتحام البرّي نفسه. المشترك بين التجربتين في أوكرانيا وغزة، ليس فحسب فشل الإستراتيجية القتالية التي وضعها الغرب لإخضاع خصومه، بالوكالة، سواءً أكانوا دولاً أم فاعلين غير دولتيّين، بل أيضاً اتضاح أنّ ثمة حدوداً للإنفاق العسكري المنفلِت، على الدول التي تفشل باستمرار في جباية الثمن المطلوب منها غربياً، لقاءَ الحماية والتدريع وإقامة الجسور الجويّة لتدفّق السلاح.
الصراع إمبريالياً حول وجهة الإنفاق على الحروب
الرعاية التي توافرت لأوكرانيا، وآخر فصولِها السماح لها باستهداف العمق الروسي عبر الصواريخ البعيدة المدى، تتقاطع، بهذا المعنى، مع نظيرتها التي حَمَت إسرائيل حتى الآن من الملاحقة الدولية ووفّرت لها كلّ سُبُل الإمداد للاستمرار في حربها التدميرية المفتوحة ضدّ غزّة ولبنان. الغرب لم يألُ جهداً، في الحالتين، بالاستثمار في الإنفاق العسكري على الوكلاء، بغية عدم تكرار تجربتي العراق وأفغانستان اللتين مثّلتا، بحكم كلفتيهما الباهظة بشرياً ومادياً، المنعطفَ نحو اعتماد الحروب التدخّلية غير المباشرة. «المنهج» هنا لم يعتمد فحسب على إبقاء الحرب جيوسياسياً في دوائر لا تسمح بحصول تبعات مباشرة على الولايات المتحدة، في حال حصول فشل كبير في المهمّة العسكرية الموكلة إلى الحلفاء.
ثمّة، بالإضافة إلى ذلك، اعتمادٌ لإستراتيجية محدّدة في الإنفاق، إذ لا تكون امتداداً لما سبق من أكلاف بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي. بمعنى جَعْل الإنفاق على الحرب بالطريقة التي أدارها الديموقراطيون، مدخلاً لمعالجة أزمات الركود والتضخُّم المتوالية، التي تحدّ من ربحيّة الاقتصاد هناك وقدرتِه على تمويل الحروب المُكلِفة. هذا فضلاً عن الحفاظ على وتيرة مرتفعة للإنفاق داخلياً، لا سيّما على الخدمات العامّة كالصحّة والتعليم ومِنح التقاعد، بما يؤمّن الشرعية اللازمة لحصول التراكم، من دون احتجاجات أو تغذية للسخط العامّ، على الطريقة الترامبيّة. على أنّ ذلك لن يكون ممكناً إلا بثمنٍ مرتفع في الداخل الأميركي، لجهة استكمال المقترح الخاصّ بخفض التضخّم. وفحواه كما يوجزه الديموقراطيون: الاستعاضة عن سياسة التقشّف المعنيّة بتجفيف السيولة في الداخل، بتخصيص رزم بليونيّة للدعم العسكري، إذ يصبح الإنفاق الحربي في الخارج، على دولٍ مثل أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، هو العلاج الفعلي للتضخّم، بدل التقشّف الذي يعتمده الجمهوريون عادةً.
خاتمة
هذا أضاف تعقيداً إضافياً على المشهد السياسي هناك، بُعيد الانتخابات الأخيرة التي حُسِمت لمصلحة الجمهوريين، ووضَعَ سياسات الحرب ومنهج الإنفاق العسكري الخاصّ بها في صُلب الخلاف بين الطرفين على مقاربة الشؤون الخارجية، ليس فقط للولايات المتحدة بل أيضاً لحلفائها في أوروبا الذين دفعوا الثمن الأكبر لحرب أوكرانيا. والحال أنّ جرّ العالم بهذه الطريقة إلى منهج العسكَرة المرتبط بتفادي الأزمات الاقتصادية في الداخل الإمبريالي الأميركي، لن يقود فحسب إلى مزيد من التدمير عبر التراكم الحربي، بل أيضاً إلى إيصال أحزاب جديدة إلى السلطة، تحمل أجندةً مماثلة لأجندة ترامب، لجهة الوعود بإنهاء الحروب عبر منهج القطيعة مع السياسات الإمبريالية الخاصّة بالديموقراطيين. وهذا يعني بالطبع حروباً أقلّ، ومنهجاً إمبريالياً أقلَّ تدخلّيةً بكثير، ولكن عبر سياسات أكثرَ يمينيةً ومحافظة ورجعيّة، على الصُعُد كافّة، بما في ذلك مقاربة الصراع العربي مع إسرائيل، بما يتجاوز الحرب الحاليّة.
* كاتب سوري