قد يكون صعباً الكلام على قضية صيدا والشيخ أحمد الأسير. الرجل نجح خلال فترة قصيرة في كسب أعداء كثر. هم في حقيقة الأمر من نادي اللاعبين التقليديين في الساحة المحلية، والذي لا يبدو أنه يجيد الانتساب إليه. والرجل ينفي سعيه الى ذلك، بل إنه يشير الى أن تقاعس من هم في موقع «الممثلين السياسيين للطائفة السنية في لبنان» عن القيام بدورهم. وإنه «يأمل تحقيق ما يحفظ كرامة أهله حتى يعود الى مسجده متابعاً رسالته الدعوية». وقد يكون صعباً على كثيريين تبني خطاب الأسير. وواضح أن بعض الذين تحمسوا له بعد ارتفاع صوته السياسي، قد اتخذوا خطوات الى الخلف. بعضهم، ربما، خاف من أن اللحاق بالرجل قد يستوجب التضحيات التي تتجاوز طاقته على الاحتمال. وبعضهم كان يرى في الرجل ناطقاً باسمه لا قائداً له. وبعضهم الثالث، وجد أن الرجل يذهب بعيداً في مطالبه، بما يتجاوز طموحات المريدين. وغالبية هؤلاء هم إما من الذين ساروا خلف الحريرية، أو من الذين يعانون إحباطاً لأسباب سياسية. هذا عدا عن كون الأسير أربك حلفاء الحريرية من المسيحيين وحتى من الدروز، برغم مناورة وليد جنبلاط الأولى تجاه الشيخ الصيداوي. لكن ما هو أكثر إثارة للقلق عند كثيرين، استعداد الأسير ولو خطابياً لفتح مواجهة الحد الأقصى مع الثنائية الأكثر نفوذاً في الطائفة الشيعية.
وقد يكون أصعب من كل ذلك، إقناع الجهات النافذة في الحكم أو المعارضة بأنه يجب على أحد ما فتح كوّة في الجدار المرتفع، بقصد مد اليد الى الأسير بحثاً عن حوار يكون هدفه مناقشته في ما يعتبرها مطالب عامة، والتوصل معه الى نوع من الحلول التي تقنعه بالعدول عن برنامج التحرك الذي بدأ به أخيراً. والصعوبة هنا، تكمن في أن غالبية النافذين من أهل الحكم أو المعارضة، يرفضون التعامل مع الأسير على أنه حالة عامة، بل يصرون على اعتباره حالة فردية محصورة يمكن عزلها وتجاوزها. ويقوم هذا الاعتقاد على أساس أن الأسير لا يملك حيثية كالتي تملكها قوى كبيرة في البلاد. وهو لا يقدر على الادعاء بأنه ينطق باسم غالبية سنية، ولا هو يقدر على إلزام مجموعات إسلامية في كل لبنان بالانخراط في تحرك لا تعرف نهايته.
حسناً، فما الذي يثير القلق من تحول تحرك الأسير وأنصاره إلى فرصة صدام يقود الى فتنة واسعة في البلاد؟
في الجواب الواقعي، إن الأسير إنما يملأ بحركته ومواقفه فراغاً يعانيه معظم خصوم سوريا وحزب الله من السنة في لبنان. وهو يقول كلاماً تردده غالبية هؤلاء في منازلهم وفي حلقاتهم الضيقة وفي أشغالهم وفي دردشات آخر الليل. وهو يمارس تحدياً يبدو في مخيلة كثيرين أنه التحدي الذي يفترض بقيادات سياسية سنية أن تقوم به. وبالتالي، فإن الأسير الذي يقول اليوم إن تحركه رهن حسم مسألة السلاح، فهو لا يقصد، وليس معقولاً أن يقصد، أنه يريد حلاً عاجلاً لملف سلاح المقاومة في لبنان. ويعني ذلك أن الرجل ـــ سواء أعجب هذا المنطق البعض أو رفضه ـــ إنما يستعجل نقاشاً مفقوداً لا بل مقطوعاً حول العلاقات بين المجموعات اللبنانية، وهو نقاش له عناوين كثيرة، من بينها عنوان السلاح. لكنه النقاش الذي يستهدف إعادة بناء الصيغة التي تنظم الحكم في لبنان، وعلاقة الدولة بالمواطن في لبنان. وحتى لو كان الأسير لا يهتم لأمور كثيرة من علاقات أهل الدولة أو جمهورهم، إلا أنه يعرف أن يمسك بمفتاح يقوده الى مركز العصب في الإشكالية القائمة في لبنان الآن، والتي نجمت عن الخلاف العميق بين القيادتين السياسيتين لغالبية الشيعة والسنة في لبنان.
باختصار، المشكلة لن تحل في قمع مجموعة الأسير، كما يعتقد بعض أصحاب الرؤوس الحامية، ولا في حصول الأسير على جواب واضح ومقنع يتعلق بمستقبل سلاح حزب الله، بل في تجرؤ من بيده الأمر على السير في خطوتين معاً: واحدة موضعية تتعلق بالأسير نفسه، لناحية منحه السلّم المقبول للنزول عن هذه الشجرة. وثانية أكثر عمومية تتعلق بجوهر المسألة. وفي هذا العنوان، تعود المسؤولية لتقع على عاتق الأكثر نفوذاً في هذه المسألة. وإذا كانت سوريا مشغولة بأزمتها الداخلية، فإن الأطراف الرئيسية لحوار من هذا النوع الآن، هي بكل بساطة: السعودية (وربما مصر الجديدة) وإيران إقليمياً، وحزب الله وتيار المستقبل في لبنان.
وإذا كانت المؤشرات لا تقود الى نتيجة إيجابية وشيكة، فإن قدرة الشيخ الأسير على جمع المتخاصمين في صيدا، حول طاولة واحدة في القصر البلدي، لأجل التشاور في ما يجب القيام به، يمكن أن تعطينا إشارة الى أن هذه «الجَمعة» يمكن أن تكون أكثر تركيزاً وفعالية، إن هي استهدفت الأطراف الرئيسية المعنية بالمعادلة الوطنية ـــ الإقليمية القائمة الآن، تحت عنوان «الحرب الباردة بين السنّة والشيعة».
وكما علّمتنا تجارب الماضي القريب والبعيد، وكما تقول لنا المأساة السورية المفتوحة، فإن محاولة القوى الابتعاد عن الحوار بحثاً عن مكاسب، من هنا وهناك، لن تفيد سوى في تأخير جلوس محتّم لجميع اللاعبين على طاولة تنتج تسوية «الحد الممكن» لضمان استمرار العيش معاً.