في البحر المقابل للشواطئ الشمالية، يترقب نشطاء البيئة موسم تركيب المصلايات في قعر البحر، الذي يبدأ من بداية فصل الربيع، ويبقى حتى نهاية فصل الخريف، حيث يُحبَس في داخلها ما هبّ ودبّ من أنواع السمك، من دون أي مراعاة لقوانين الصيد والبيئة. «سنبلّغ عن أي مخالفة يراها حماة البيئة الذين يجوبون البحر يومياً»، يقول الناشط البيئي ربيع سالم.
تُثبَّت المصلاية داخل البحر، فتكون بمثابة فخ يُنصَب لاستدراج الأسماك إلى داخل شباكها. تمتد المصلاية من الشاطئ إلى البحر على مسافة 500 متر، ويقع في نهايتها ما يسمى الدورة، أو بالأحرى السجن، وهو عبارة عن سور دائري يتكون من شباك داخل البحر تتدلى من مكعبات فلين تعوم على سطح الماء. ما إن تصل السمكة إلى الدورة وتصطدم بالشباك، لا تجد مخرجاً لها، فتستمر بالدوران في هذه المنطقة إلى أن تُصطاد. أحياناً، يكون للدورة مخرج، لكنه يؤدي إلى مشبك آخر ودورة ثانية، فتعلق السمكة في الحلقة المفرغة ذاتها.
المعايير المعتمدة للمصلاية تحدد اتساع الفتحة بـ20 ملم على الأقل، لتتمكن الأسماك الصغيرة من الهروب. يحتج العديد من الصيادين على عدم احترام هذه المعايير. ويؤكد الغطاسون في بلدة أنفة، إضافة إلى أمين سر نقابة الصيادين في الشمال سليم أنوس، أن ما يفعله أصحاب المصلايات هو احتكار للثروة السمكية، حيث تستفيد حفنة من النافذين على حساب السواد الأعظم من فقراء الصيادين في الشمال، الذين يزدادون فقراً.
يحذر المحتجون من أن هذه المصلايات قريبة جداً من الشاطئ، وتمثّل خطراً على السابحين والغطاسين. «إنها مستعمرات داخل البحر. هي كبيرة لدرجة يمكن القول إنها تحتل البحر، حتى لم يعد لنا مكان نصطاد فيه»، يقول سليم أنوس.
يروي الأخير كيف كاد يغرق حين كان على متن زورقه، وجرفته العاصفة إلى مصلاية، فعلق الموتور داخل شبكتها العائمة.
النتيجة الأخرى التي تترتب على هذه المصلايات، أنها في طريقها إلى القضاء على الثروة السمكية؛ فـ«الشبكات التي يضعونها تكون ضيقة جداً، فتلتقط كل أنواع الأسماك، حتى لو كانت واسعة كما يدعي أصحاب المصلايات؛ فمع الوقت تتكون على هذه الشبكات طبقات من الحشيش والعناصر النباتية لتغلق ثقوبها فتتحول الشبكة إلى حائط من شبه المستحيل اختراقه. بذلك، تصبح المصلاية سوراً بكل معنى الكلمة»، يقول قره بيت قزانجيان، مسؤول حملة المحيطات في منظمة «غرينبيس» في لبنان.
يرى قزانجيان أن خطورة المصلايات هي أيضاً في قربها من الشاطئ، كما لاحظ في جولة مع بعض الصيادين في جولة في بحر أنفة. بعض الأسماك، كالمليفَة مثلاً، تأتي لتتزاوج قرب الشاطئ، حيث يوضع البيض. بطبيعة الحال، تعلق السمكة مع بيضها في شباك المصلاية، وخصوصاً عند انسداد ثقوب الشبكة، وتُنتشَل حين يحين موعد الحصاد، وبذلك تُصطاد الأسماك التي لم تنمُ نمواً كاملاً وتُقطَع الطريق أمام دورة الحياة والتوالد عند الأسماك لتسلك درب الانقراض».
يروي الصيادون كيف أن سمك الصفد والتوتيا والترس وغيرها من الأنواع الصغيرة بدأت تُفقد في البحر. ويفيد قزانجيان بأن المصلايات هي الأخطر من بين الطرق غير المشروعة للصيد، حيث إنها على عكس غيرها من التقنيات، لا تستهدف أنواعاً معيّنة من السمك، بل تصطاد كل ما يعلق بشباكها، وبالتالي هي من أسوأ طرق الاصطياد وأكثرها تهديداً للثروة السمكية.
«سابقاً، كانت سمكة شليمونة تزن ٣ كيلوغرامات، أما اليوم فعشرة أسماك شليمونة تزن كيلوغراماً واحداً»، يشتكي لنا أحد الصيادين. ويكمل قائلاً: «لم نعد نجد أماكن للاصطياد؛ فقبالة الشاطئ نصطدم بالمصلايات، فإذا كنا نريد أن نبتعد يوقفنا الجيش واليونيفيل لأننا نقترب من المياه الإقليمية. وشمالاً نقترب من المياه السورية، وقرب ميناء طرابلس الصيد محظور. فأين نصطاد؟».
ترى وزارة الزراعة، المسؤولة عن إدارة هذا الملف، أن صلاحياتها محدودة بالبرَ، لكن الوزير حسين الحاج حسن أصدر قراراً بإزالة جميع المخالفات، التي لا تقتصر على المصلايات، بل تصل إلى المجارف البحرية، الكومبريسور والصيد في الليل عبر استخدام البروجيكتورات واستعمال الشباك الضيقة. قرار الوزارة أدى إلى إزالة واحدة من المصلايات في منطقة طبرجا العام الماضي، لكن العديد غيرها عملت في موسم عام 2010 على مدار الساعة على طول الشاطئ اللبناني.
وتطالب وزارة الزراعة بإعادة تجهيز فريق عملها بقوارب بحرية لكي يستطيع القيام بعمليات رقابة في البحر، لكن هذه التجهيزات تعترضها عقبة موازنة الوزارة المنخفضة.
«أصحاب المصلايات ليسوا صيادين، بل مستثمرون؛ فهم يتكلفون بين ٣٥ و٥٥ ألف دولار أميركي سنوياً لوضع المصلايات التي تبقى ٩ أشهر في السنة. كل الرخص أو الإجازات التي أُعطيت سابقاً انتهت صلاحيتها، ولن تجددها وزارة الزراعة، وبالتالي إن أي مصلاية جديدة تُركّب في موسم عام 2011 هي مخالفة للقانون»، يضيف قزانجيان.
في منطقة القلمون، حيث يُركَّب سنوياً عدد كبير من المصلايات، ينفي أصحابها كل ما تقوله النقابة والصيادون المحتجون. «هيدا حسد وغيرة، لو كان باستطاعتهم إنشاء مصلايات لفعلوا، لكن طبيعة شاطئ الميناء في طرابلس لا تسمح بذلك»، يقول سمير بلوط، ممثل أصحاب المصلايات في القلمون.
بدوره يروي أنوس أنه خلال فترة حرب نهر البارد كان الصيد ممنوعاً في المياه التي تحيط بمناطق المعارك، وعند انتهاء الحرب عاود الصيادون مزاولة مهنتهم، فرجعوا بصيد وافر لم يروا له مثيلاً من قبل، فكانت الحرب وسيلة لاإرادية لتنظيم الصيد البحري.