المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين»، مديرية تابعة للدولة تعاني ما تعانيه باقي دوائر الدولة. كتب على كل فلسطيني أن يحج إلى هذا المبنى ولو مرة واحدة في حياته. داخل «الشؤون» تدور الـ«طلاع، نزال، خود، وجيب» على أمل الحصول على مجرد وثيقة هوية جديدة
قاسم س. قاسم
«حبيبي اسمك واسم عيلتك مش موجودين بالملف روح جيب شهادة ميلادك وميلاد إخواتك لأعملك هوية، وبهالطريقة منعملكم ملف جديد»، «أنا ما بعرف إخواتي وين خلقانين وكلهم مسافرين كيف بدي جيب شهادات ميلادهم؟»، «طيب، جيب شهادة ميلادك وبعملك هوية»، «مضطر خلص الهوية اليوم ما رح يمشي الحال»؟، «طيب، اعطيني هويتك القديمة لانسخ عنها». يعطيه الشاب هويته لكن لكونها ممزقة لم يستطع الموظف أن يرى المعلومات الموجودة عليها، فيصرخ فيه «هاي هوية هاي؟»، يرد عليه الشاب: «ما انا جاي كرمال جددها»، «روح جيب شهادة ميلادك لنعملك واحدة جديدة»، ثم يرمي له الهوية على الطاولة. دار هذا النقاش بين أحد اللاجئين وموظف في «المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين» في بشارة الخوري. يأتي جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ولو مرة واحدة في حياتهم إلى هذا المبنى لتجديد هوياتهم، فهو المركز الوحيد في لبنان لاستصدار هويات فلسطينية. بالنسبة إلى أبناء مخيمات بيروت الرحلة سهلة، رغم ساعات الانتظار الطويلة، لكن على أبناء المخيمات خارج بيروت، ترك مخيماتهم باكراً في رحلة إلى مبنى المديرية، ليعود أغلبهم إلى بيوتهم من دون أن ينالوا مطلبهم. لذا، يعاودون تكرار رحلة حجّهم إلى المبنى مجدداً.
البيانات المفقودة في سجلات الشؤون وضعها مثل وضع الأحوال الشخصية
على باب «الشؤون»، كما يحلو للفلسطينيين تسميتها، كان صف اللاجئين طويلاً. يجلس في الطابق الأرضي من المبنى، عدد منهم بانتظار دورهم لتقديم طلبات لاستصدار بطاقات هوية أو للحصول على إخراج قيد جديد. هم في انتظار أن يخفّ عدد الواقفين في الصفّ الطويل، ليدخلوا لتقديم طلباتهم. تقف في الصف بينما يتولى عنصر من قوى الأمن الداخلي مهمة إدخال الناس. يجتازك بعض الأشخاص، يلقون التحية على رجل الأمن، الأوراق التي يحملونها تشير إلى أنهم «سماسرة»، نوع من «مخلصي المعاملات»، وبذلك يحق لهم ما لا يحق لغيرهم. يأتي دورك بعد طول انتظار. تدخل إلى القاعة. يتسلّمك الموظف الأول لتناوله ما بيمينك من أوراق. بعد تدقيق الموظف الأول في الأوراق المطلوبة للتأكد من أنها موجودة بالتمام والكمال، يسلّمك ورقة بموجبها يجري تحويلك إلى موظف ثانٍ، فيسألك عن نوع الأوراق التي تريدها، يأخذ مستنداتك ويعطيك ورقة برقم الطلب، طالباً منك العودة بعد 15 يوماً.
تنقضي مهلة الخمسة عشر يوماً، تعود إلى المبنى آملاً أن تأخذ هويتك بسلاسة لترحل. تنتظر الموظف كي يسلّمك بطاقتك الزرقاء الجديدة. يأتي الرجل محمّلاً بالهويات الجديدة. تقف في الصف، تعطيه ورقة برقم ملفك يقف خلفك العديد من اللاجئين في الصف. يمسح الرجل عرقه، يفتش في الهويات لا يجد هويتك. تطلب منه تكرار المحاولة لأنك تعرف أن رحلتك ستطول أكثر لإصدار هوية جديدة. يأتيك الجواب من الرجل «طلبك مرفوض، طلاع على الطابق التاني شوف السبب». بعدها تبدأ رحلتك بين طوابق وأقسام المبنى إذا كنت تريد الاستحصال على هوية جديدة أو إخراج قيد (غير صالح لعقد قران) على حد سواء.
ما يواسيك أنك لن تكون الوحيد الذي قد يعاني رفض طلبه أو عدم حصوله على هويته. تصعد إلى الطابق الثاني، هناك زحمة الناس تفوق التي رأيتها عند المدخل الرئيس. تدخل المكتب، حيث توجد دفاتر مرقمة تحصي أسماء اللاجئين في لبنان من يوم دخولهم إليه. تحاول أن تمر بين الناس لتصل إلى الموظف المسؤول. تعطيه رقم ملفك لتبيان سبب رفض طلبك. يصرخ الرجل بالناس طالباً منهم التراجع عن المكتب مهدداً «بوقّف الشغل». بعد الانتظار يصل دورك، تسأل عن سبب رفض طلبك، ينظر إلى رقم ملفك. يسألك أن تناوله دفتر يحتوي رقم سجلك. يفتح الرجل الدفتر الكبير، تلاحظ أن بعض الأوراق غير موجودة، أو أنها مهترئة. يصل الرجل إلى الورقة التي من المفترض أن يكون سجلّك موجوداً عليها، «طلبك انرفض لأن الورقة مش موجودة». تسأله عن الحل؟ يطلب منك العودة مجدداً بشهادة ميلادك لتعيد الكرّة أملاً بأن «تنقش معك» في المرة المقبلة. يستوقفك في طريق الخروج صراخ رجل الأمن على إحدى النساء «مين مفكرة حالك؟ مرتو لمحمود عباس»، تجيبه المرأة بغضب «لا والله أنا لبنانية متلي متلك ونحنا منعرف نفسيات بعض». تهدأ النفوس بعد أن يطلب منها الدركي «ما تفضحينا، هلق بيمشي الحال».
هكذا، يعيش الفلسطينيون يومياتهم في مركز الشؤون. في هذا الصدد يكشف مسؤول أمني كبير في وزارة الداخلية، رفض ذكر اسمه، أن البيانات المفقودة في سجلات الشؤون «وضعها مثل وضع الأحوال الشخصية اللبنانية»، مضيفاً إن الوزارة «تحاول مكننة هذه البيانات». مستغرباً أن يعتذر الموظف عن إصدار الهوية بحجّة فقدان البيانات لأن «كل المعلومات موجودة على الكومبيوترات في المبنى». يذكر أنّ المنصب الحالي للمدير العام لمديرية الشؤون السياسية واللاجئين يتسلّمه شخص مدني بالوكالة، أما السبب؟ فيقول المسؤول الأمني «ينتظر هذا المنصب تعيين الفئة الأولى في الدولة». إذاً، يعيش الفلسطينيون أزمة إصدار هويّاتهم، بين دفاتر ممزقة تختفي عنها بياناتهم، ومزاجية رجال الأمن، وسماسرة يسترزقون من كل ما ذكرنا أعلاه.


أراد أحد الزملاء أن يسافر إلى سوريا لحضور حفل زياد الرحباني. واجهته مشكلة كونه فلسطينياً لأنه يجب عليه أن ينتظر 15 يوماً للحصول على هوية جديدة، وبهذا يكون قد فات موعد الحفلة. نزل الرجل إلى مبنى الشؤون، وهناك شرح لأحد السماسرة مشكلته. طلب منه الأخير مبلغ «25 ألف ليرة لإصدار بطاقة الهوية، و25 ألف ليرة أخرى لإخراج القيد الفردي»، قائلاً إنه «سينهي المعاملة في ساعتين». ويضيف «بعملك «ميسد كول» لتنزل تاخدهم». صدق الرجل وعده، وبعد ساعتين اتصل الرجل بالزميل ليطمئنه إلى أن أوراقه «خلصت» ويستطيع أخذها
متى يشاء