في الذكرى الثامنة عشرة لحل الحزب، باتت القوات اللبنانية في مكان آخر. العداء للمسلمين والعرب لم يعد موجوداً، وتعميم هذه النظرة انتفى. بات القواتيون يستمعون بهدوء إلى امرأة ليبية محجبة تحدثهم عن مآسي العزيزية وطرابلس الغرب والغابة القاحلة في زمن الكتاب الأخضر. لم تعد «بسملة» شاب مصري تستفزّهم وهو يتحدث عن الثورة في بلاد جمال عبد الناصر. كان ينقص القواتيين أن يُنشدوا «الله وأكبر فوق كيد المعتدي». باختصار، «بعبع» الأمس زال. قائد القوات اللبنانية بات هو أيضاً في مكان آخر. تغيّر طموحه من جمهورية «كفرشيما - المدفون» إلى الجمهورية اللبنانية بكاملها. لا بل أوسع من ذلك، فبدأ يتوجّه إلى المسيحيين في كل الشرق، في سوريا والعراق ومصر. وعبارات مثل «العرب» و«العربية» لم تعد تفارق خطابه، وكأنه أصبح مقتنعاً بأنه ليس بالإمكان فصل لبنان عن محيطه، وبأنّ الحال هي نفسها «في بيروت وتونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء» والآن «تهيأ دمشق، فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق». تبدلات خطاب سمير جعجع في الأشهر الأخيرة تؤكد نيته وطموحه الوصول إلى رئاسة الجمهورية: يتحدث عن المسيحيين وموقعهم في لبنان والمحيط وينفتح على الدول العربية. غادر للتو قمقم «الغبن المسيحي».
ترك جعجع هذا الانطباع لدى كثيرين ممن حضروا إلى البيال أو تابعوا كلمته عبر وسائل الإعلام. لكن في مسيرة جعجع العربية بعضاً من الشوائب، منها ما هو حالي وأساسي ومنها ما يعود إلى زمن ما قبل الربيع. مثلاً، من لا يذكر العلاقة الممتازة التي كانت تجمعه بمسؤولي نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك؟ والأكيد أنّ جعجع حافظ على هذه العلاقة لحين سقوط نظام الحزب الوطني في مصر، فزار «الحكيم» القاهرة خلال الثورة وتابع تواصله مع وزير الخارجية حينها احمد أبو الغيط. وبالتالي، ثمة علامات استفهام على تبدّل موقف جعجع من السلطة في مصر وتأكيده اليوم الوقوف إلى جانب الربيع العربي.. عدا أنه لا يزال يغفل حتى اليوم ما حصل ويحصل في البحرين؟
جعجع كغيره من أقطاب ومسؤولي قوى 14 آذار، يجيب عن هذا التساؤل في مجالسه مشيراً إلى أنّ حراك المنامة دوافعه الأساسية مذهبية قبل أي شيء آخر. لو أضاف جعجع البحرين إلى خطابه في البيال لكان احتفظ بالعصفور الذي يمكسه بيده ولكان أسقط أيضاً بعضاً من العصافير العشرة الموجودة على الشجرة. كان بإمكانه ذكر البحرين مقترحاً إيجاد المبادرة السياسية اللازمة لحل الأزمة، تحت عنوان حماية الشعب المنتفض ومنحه حقوقه وفي الوقت نفسه حماية الخليج العربي من النفوذ الإيراني. هذا الأمر يحفظ له ماء الوجه لدى الجانبين، الأنظمة العربية الحليفة له والشعوب العربية المطالبة بالتغيير. كما كان ذلك ليشكل مناسبة تمهّد له الطريق للحوار مع جزء من «الطرف المذهبي» الذي يعتبره مسؤولاً عن الحراك البحريني.
غير ذلك، بدا جعجع قوياً في البيال. رسائله وصلت إلى حلفائه وخصومه على حد سواء. وصوله إلى القاعة دلّ على ذلك، فهو لم يسبق له أن دخل مهرجان كما فعل يوم السبت. ترك وراءه النائب ستريدا جعجع التي تأخرّت عنه بخطوات وسارعت إلى اللحاق به. مرّ على الجالسين في الصف الأول وحيّاهم. عانق الرئيس أمين الجميّل وربّت على كتف نجله سامي وشدّ على ذراع ابن أخيه نديم. كان لافتاً غياب رئيس كتلة المستقبل، النائب فؤاد السنيورة، إلا أنّ الكتلة تمثّلت بـ12 نائباً. قوى 14 آذار كانت كلها حاضرة، بكتلها ووزرائها السابقين ومسؤوليها وناشطيها.
بدا الأمر وكأنّ القوات اللبنانية تعطي حلفاءها درساً في تنظيم الاحتفالات. قاعة مليئة لا بل تفيض بالحاضرين. كلهم من أصحاب ربطات العنق، الذين لم تجمع منهم قوى 14 آذار إلا عدداً قليلاً في ذكراها السابعة. تنظيم متقن في ترقيم الكراسي ومساعدة الضيوف على إيجاد أماكنهم، عكس فوضى 14 شباط وآذار. هنا ثمة حزب منظم يدير الأمور، هناك ثمة «خبصة» تيارات ومستقلين يعمل كل منهم ما في رأسه. في الشكل لا مجال للمقارنة بين 14 آذار 2012 و31 آذار 2012.
المضمون لم يختلف كثيراً من حيث دعم الثورات العربية. لكن القوات أثبتت مرة جديدة تفوّقها على حلفائها. جعجع تجرأ على دعوة ممثلين عن الثورات العربية، الحلفاء لم يفعلوا. الأهم في هذا الموضوع، جرأة القواتيين على فتح الخطابات أمام المعارضين السوريين، الأمر الذي هربت منه قوى 14 آذار بشتى الوسائل لدى تحضيرها لمهرجان 14 شباط الأخير. رفضت هذه القوى دعوة ممثل عن المجلس الوطني السوري بادعاء حجة المحافظة على أمنه. امتنعوا عن تسجيل كلمة للمجلس لكي تبقى المخاطبة عبر شاشة حكراً على الرئيس سعد الحريري وحتى لا يقارن به أحد. أما القواتيون فسجّلوا رسالة لناشطة في المعارضة. اختاروها من الطائفة المسيحية علّها تعبّر عن رأي شارعها في سوريا. عبّر جعجع عن موقفه المعروف من السلطة السورية، فانتقدها وحمّلها مسؤولية هدر الدماء ودفع السوريين إلى التطرّف: «كل ما يجري لن يفيد النظام، ولا من يقف وراءه أو أمامه بشيء، سوى زيادة التطرف». دعا «الى استفتاء شعبي حقيقي، برعاية جامعة الدول العربية ومجلس الأمن حول بقاء النظام أو عدمه». وخارج هذا السبيل الديموقراطي «مزيد من الدماء والدمار والموت». توجه إلى المسيحيين السوريين وطلب منهم البقاء في أرضهم والمشاركة في الحياة السياسية عبر انفتاحهم وتوسيع تحالفاتهم.
وفي انتقاد الحكومة اللبنانية، بدا جعجع أكثر تماسكاً من حلفائه. عدّد أخطاء الحكومة في كل المجالات وانتقد إصلاحاتها مشيراً إلى أنّ «التغيير الوحيد الذي اقدموا عليه كان تغيير شربل نحاس، الوزير الوحيد من بينهم الذي كان يحمل أفكاراً إصلاحية وتغييرية، ولو كنا لا نوافق على معظمها».
إطلالة جعجع كان عنوانها «لا يصح إلا الصحيح». قال للجيمع ما معناه: كنت مقيّداً ومنبوذاً وها أنا اليوم حر طليق أخوض المعارك السياسية. اختصر ذلك بالقول: «في العام 1994 حلوا حزب القوات وفي العام 2005 حلوا عن أرضنا وعن سمانا»، وعبّر عما ينتظره: «وكلي أمل أنه في وقت قريب رح يحلوا عن ضهر الشعب السوري إذا ألله راد».