لم تخلُ تقارير الجمعيّة اللبنانيّة لديموقراطيّة الانتخابات يوماً من مشاكل مهنية وقانونية وسياسية، علّقنا عليها مراراً بشكل ملاحظات لم يؤخذ بها، ما يجعل الشكوك بنزاهتها وحيادها تتحول يقيناً، وهذا ما يكشفه التقرير الصادر عن الجمعيّة بعد انتخابات الشمال
كمال فغالي *
نقدّم في هذا النص ملاحظاتنا على التقرير الرابع للجمعية ضمن قسمين. الأول يتعلق بالمضمون، والثاني بالشكل. أولاً، في المضمون:
هنأت الجمعية المواطنين «على نجاحهم مرة أخرى في أداء واجبهم وممارسة حقهم المواطني في الانتخاب»، علماً بأن الإحجام عن الاقتراع هو أيضاً حق من حقوق المواطن، وهو حق ديموقراطي بالتعبير عن رفض العملية الانتخابية برمّتها، فهل يكون المواطن الذي لم ينتخب قد أخلّ بأداء واجبه المواطني؟
وورد أنه «على الرغم من جريمة ضهر العين التي بدا للحظة أنها قد تترك انعكاسات سلبية كبيرة على عملية الاقتراع...»، يقضي هذا التذكير بأن أحد عناصر المهنيّة في كتابة تقارير من هذا النوع، وهنا نتكلم عن المعايير العالمية، عدم اعتماد الافتراضات وبناء النتائج المتأتّية عنها، بل وصف الوقائع كما هي، وتحليلها إذا لزم الأمر. وفي هذا الإطار، لا يجوز استخدام تعابير «بدا» و«قد» في تقريرٍ توصيفي.
وفي إشارة إلى المخالفات موضع الطعون، نقرأ أنها «أثرت في نتائج الانتخابات أو غيّرتها في بعض الحالات...». وهذا يعني أن الجمعية تؤكد أن المخالفات موضوع الطعون المُقدّمة أمام مجلس شورى الدولة، قد أثّرت أو غيّرت نتائج الانتخابات، وهو ما لم يصدر حكم بشأنه عن المجلس المذكور، فهل تنصّب الجمعية نفسها قاضياً وحاكماً، إضافةً إلى مهماتها كمراقب، ومرشد ومستشار سياسي، كما سنرى لاحقاً؟
ونجد في الفقرة ذاتها: «كذلك الأمر في لبنان الجنوبي والنبطية... قبل يوم الاقتراع لفرض اللوائح التوافقية وخلال يوم الاقتراع...».
تنصّب جمعيّة المراقبة نفسها قاضياً وحاكماً ومرشداً ومستشاراً سياسياً
إن التوافق هو أحد أشكال الديموقراطية، وفي تقريرها السابق حول الانتخابات التي جرت في لبنان الجنوبي والنبطية، تشيد الجمعية بالتوافق الذي حصل في صيدا وتدينه في المناطق الأخرى. وهذا التناقض ليس بحدّ ذاته المأخذ، بل القول إن لوائح توافقية قد فُرضت فرضاً دون تقديم الدليل، ما يشكّل ادّعاءً باطلاً.
ننتقل إلى الصفحة 2، حيث نقرأ: «يتناول التقرير في هذا القسم عدداً محدوداً من النقاط المهمة». فما هو معيار تحديد الأهمية، ألم يذكر التقرير في تعداده للمخالفات أن رشى مالية قد دُفعت، وشكاوى عديدة تمّ تقديمها، أليست مهمة بدورها؟ ما يدفع إلى طرح السؤال: المهمّ مهمّ بالنسبة إلى من: الجمعية أم ديموقراطية الانتخابات؟
وعن جريمة ضهر العين، يعيب التقرير الاستغلال السياسي الذي «ربما» يكون لخدمة أغراض انتخابيّة آنيّة. ويتوقف عند التوقيت والمضمون والشكل للمؤتمر الصحافي الذي عقده النائب سليمان فرنجية. الحقيقة أن التوقيت كان بعد حدوث الجريمة، والمضمون كان عن الجريمة الشنعاء وتداعياتها. أما الشكل، فليس كاتب الجمعية ولا الجمعية، مستشارين للوزير فرنجية ولا مرشديه إلى كيفية تعامله مع حدثٍ جلل كالجريمة التي وقعت وأودت بحياة شابين في ريعان شبابهما.
كذلك الاستفاضة في تفنيد المؤتمر الصحافي للنائب فرنجية (ولا سيّما أن التقرير قد كُتب في اليوم التالي للانتخابات)، وعدم الإشارة إلى المؤتمر الصحافي الذي عقده النائب القواتي إيلي كيروز وما تضمنه، يؤكد مرّة أخرى أن هذا التقرير هو تقرير هادف سياسياً، إضافة إلى كونه منحازاً وجائراً. والقول إن كلام فرنجية أتى محملاً بمضامين تحريضية تتجاوز القدح والذم والتشهير، هو بحدّ ذاته تشهير.
أما الطامة الكبرى فهي حين يشير التقرير إلى «تهديد على درجة كبيرة من الوضوح لفئة من المواطنين بسبب انتمائهم السياسي». هل القول إن الدولة هي التي تحمي الناس، وهو ما قاله فرنجية، هو تهديد؟ أين الوضوح في هذا التهديد المزعوم؟
بالإضافة إلى كلّ ذلك، أورد التقرير أن مؤتمر فرنجية تضمن عناصر وإيحاءات باحتمال حدوث مواجهات عنيفة يوم الاقتراع، وادعى بأن هذا يشكل ضغطاً على الجهات المعنية لتأجيل الانتخابات. إنها بالفعل عملية تضليل واسعة النطاق للرأي العام، فأين تكمن مصلحة فرنجية في تأجيل الانتخابات، ولا سيّما أن التقرير بالذات اتهم فرنجية بأنه عقد المؤتمر الصحافي بهدف الاستغلال السياسي والانتخابي لأهداف آنية، فكيف يكون يسعى إلى تأجيل الانتخابات؟ معضلة جديدة في تقرير بائس يسعى من وراءه إلى الاستفادة من موقعه في الجمعية للافتراء على قوى سياسية محدّدة دون غيرها.
القول إن المؤتمر هو الذي سبّب موجة من القلق في أوساط واسعة، وأنه وسّع نطاق عمل جرمي «محدود» إلى «إمكانية» تحوّله إلى ضرر معمّم، أمر بغاية الاستغراب. فالضرر المُشار إليه، الذي ينبّه منه التقرير هو محتمل (كما يزعم) وذلك باستخدامه عبارة «إمكانية». أما العمل الجرمي، الذي يعتبره التقرير محدود النطاق، فهو أمر مؤكد وحاصل ولا لبس فيه. فكيف تتمّ إدانة أمر محتمل، وتسخيف جريمة مروّعة كالتي حدثت في ضهر العين؟
إن الانحياز الواضح والجلي في هذه الفقرة لأحد الأطراف السياسية (القوات اللبنانية) من جهة، والإدانة غير المبرّرة لموقف طرف آخر (المردة والوزير سليمان فرنجية) من جهة ثانية، يجعلنا نطالب أعضاء الجمعية بأن يكفّوا عن نشر تقاريرهم غير الحيادية وغير النزيهة، والانتساب إلى فريق سياسي تتماشى تطلعاته مع تطلعاتهم، فتكون مواقفهم وبياناتهم أكثر شفافية بدلاً من التلطّي وراء أسماء مستعارة.
لا يجوز استخدام تعابير «بدا» و«قد» في تقريرٍ توصيفي
في الصفحة 3، نقرأ عن استخدام المواقع العامة في العمل الانتخابي، ويشير التقرير إلى أن الوزير جبران باسيل تناول من مكتبه في الوزارة قضايا تتعلق بالانتخابات البلدية، وذلك في معرض ردّه على بعض الأسئلة التي وُجّهت إليه. وهو لم يقم باستخدام موقعه للترويج لمرشح، بل ما قاله كان رداً على أسئلة طُرحت عليه في معرض قيامه بمهماته كوزير. هنا يمكن القول إن التقرير يدعو إلى إسكات الصحافيين وكمّ أفواههم وعدم السماح لهم بطرح الأسئلة.
وعن فترة الصمت الإعلامي، نقرأ كلاماً عاماً يتّهم أشخاصاً مجهولي الهوية بالتصريح، مستخدمين تعابير توحي بالتنافر والسجال. ويوسّع التقرير نطاق الإدانة للقوى السياسية «المجهولة» بالقول إنها قامت بـ«مصادرة» البلديات «قبل» انتخابها للقيام بعملية عدّ البلديات المناصرة لتياراتها. كأنه يقول إنه لكي تحلّ هذه المشكلة، هناك طريقتان: أن تتمّ «مصادرة» البلديات «بعد» الانتخابات، أو أن تُمنع الأحزاب السياسية من المشاركة في الانتخابات البلدية، وبالتالي يتوقّف تعداد البلديات الموالية لهذا الحزب أو ذاك.
وقد ورد تحت عنوان ملاحظات مراقبي الجمعية، أن حدوث الإشكالات لم يترك أثراً على العملية الانتخابية، وهو لأمر غريب، ولا سيّما أن كاتب التقرير رأى في الصفحات التي سبقت أن مؤتمراً صحافياً عُقد على أثر ارتكاب جريمة قتل كاد يودي بالبلاد إلى شبه حرب، أما وقوع إشكالات فليس له تأثير!
أما الفقرة الثانية، فأفادت بأن حركة الماكينات الانتخابية كانت كبيرة حتى في البلدات التي كان فيها لوائح ائتلافية ولا تشهد تنافساً، علماً بأنه حيث تكون هناك انتخابات، تنشط الماكينات، وهي إذا كانت ناشطة أكثر في المناطق التي تشهد تنافساً من تلك التي تمّ تأليف لوائح ائتلافية فيها، فمردّ ذلك إلى أن نشاط الماكينات مرتبط أحياناً بتسجيل عدد كبير من الناخبين. وفي أي حال، إن نشاط الماكينات أو عدمه يعود إلى الأحزاب السياسية وحدها، وطالما أنه يقع تحت سقف القانون، فلماذا تمّت الإشارة إليه؟
وعن التعرض إلى الجمعية، أشير إلى الحالات التي تعرض فيها بعض الأشخاص لمندوبي الجمعية، ولكن المُستغرب أن يرد في هذا القسم مخالفة قامت بها الجمعية بذاتها. إن إيراد هذه المخالفة تحت عنوان «التعرض إلى الجمعية» أمر خاطئ، كما أن المخالفة المُشار إليها (وجود عدد من المراقبين في قرى ينتمون إليها) يدلّ على إدارة غير كفوءة للعمل.
* مدير مكتب الإحصاء والتوثيق


الانتخابات: تقليد ومعركة؟

نعرض هنا لأبرز الملاحظات المتعلقة بالشكل، والتي تدلّ بدورها على عدم حرفيّة في العمل. فقد ورد في التقرير أن تاريخ صدوره هو في 30 أيار 2010، فيما يوحي المضمون بأن التاريخ هو اليوم التالي للانتخابات أي في 31 أيار 2010، إذ نقرأ «مع اختتام المرحلة الرابعة من الانتخابات البلدية في محافظتي الشمال وعكار يوم أمس»، ما يفيد بأن التقرير صدر يوم 31 أيار 2010، وهذا أمر غير مقبول شكلاً.
يوجد كمّ هائل من الأخطاء المطبعية، ما يعدّ أمراً معيباً بالنسبة إلى جمعية تدّعي المهنيّة. ويمكننا أن نقدّم جدولاً خاصاً بالأخطاء لولا ضيق المساحة، إلا أننا نكتفي بالقول إن تكرار الأخطاء المطبعيّة يوحي بأن القيّمين على الجمعية، إما أنهم لا يقرأون ما يُكتب، أو أنهم قليلو الاحتراز ويهملون التدقيق، وفي هذا النوع من تقارير الجمعيات وعملها، فإن قلّة الاحتراز والإهمال وقلّة الدراية هي من قبيل الأخطاء المهنية الجسيمة.
كانت صياغة التعابير والجُمل ركيكة جداً، ما يوحي بأن التقرير أعدّ على عجل ومن دون تنقيح. ومن الأدلّة على هشاشة النصّ، استخدام كلمة «تقليد» في إشارة إلى الانتخابات، فهل يجوز اعتبار إجراء انتخابات بلدية في دولة تدّعي الديموقراطية بأنه «تقليد» كما ورد في الفقرة الأولى من المقدمة؟ كما أن استخدام عبارة «معركة» انتخابية بدلاً من «منافسة» من قبل جمعية مدنية غير حزبية، أو ميليشيوية، تدعو إلى نشر الديموقراطية والمنافسة الحرّة يكشف عن مكنونات كاتب التقرير الأيديولوجية الدفينة؟
إن هذه الأخطاء اللغوية بمثابة إهانة للقارئ، لا بل هي إهانة للغة العربية. صحيح أنه ليس مطلوباً من جمعية غير متخصّصة باللغة اتباع منهج سيبويه في اللغة والإعراب، إنما أضعف الإيمان أن تتمّ كتابة التقرير بالشكل والصياغة المقبولين، ولا سيّما أن الجمعية تبقى عاطلة من العمل إلا في مواسم الانتخابات، فلا ضير إن تأخّر صدور التقرير ساعة واحدة حتى يُصار إلى تنقيحه من قبل مختصّين في اللغة.