سلامة كيلة*ربما كانت الأزمة المالية التي هزّت الولايات المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2008 هي التي أتت بأوباما رئيساً. وقد يكون لديه سياسات لا تتوافق مع البنية العامة في الولايات المتحدة، هي تعبير عن مصالح شرائح من الرأسمالية الأميركية. لكن هل يستطيع أوباما أن يرسم سياسة تتناقض مع الطغم المالية؟
إلى حين انفجار الأزمة المالية في اللحظة الحرجة من الانتخابات الأميركية، كانت كل الاستطلاعات تشير إلى أنّ جون ماكين هو الأوفر حظاً في النجاح، وكان الدعم من الاحتكارات ومن الإعلام واضحاً. فماكين هو الاستمرارية لحقبة جورج بوش الابن، ولقد كانت الاحتكارات تدعم توسيع السيطرة على العالم، ولا ترى سوى الحرب طريقاً لتثبيت هذه السيطرة على ضوء الأزمات التي كانت تعيشها منذ عقدين على الأقل، والتي دفعتها منذ انهيار المنظومة الاشتراكية إلى تقرير سياسة حربية تطاول العالم، وخصوصاً ما بات يسميه بوش «الشرق الأوسط الموسع». وكانت هذه الاحتكارات ترى، في نهاية حقبة بوش، أنها لم تحقّق ما أرادت بعد، الأمر الذي يفرض استمرار السياسة ذاتها برئيس «مناسب»، هو جون ماكين. وكانت قد بدأت «تعديل» بعض السياسات على ضوء «أزمة الاحتلال» في العراق بعد تقرير بيكر/ هاملتون، ومنها تعديل الاستراتيجية الخاصة بالوجود في العراق، لكن دون تغيير كل الاستراتيجية، و«الهرب» كما بات يتوهّم البعض.
لكن الأزمة أوضحت أن الاقتصاد الأميركي على شفير الانهيار، وأنّ أميركا باتت في مهب الريح. وإذ أشيرَ إلى «أخطاء» في السياسة الخارجية، بقي الوضع الداخلي هو الأهم، لأن الأزمة طاولت قطاعاً واسعاً من الأميركيّين. لهذا جرى دعم مرشح يطرح ما يبدو أنه يُخرج أميركا من أزمتها الاقتصادية (توسيع الضمان الصحي، وضبط وول ستريت، والضرائب، والعاطلين من العمل...). وكانت مقاومة ذلك صعبة نتيجة هذا الدعم، مما فرض تغيير استراتيجية الاحتكارات من أجل «بلع» الرئيس الجديد، وهو ما اتّضح بعد وضوح الميل إلى دعمه من خلال فرض نائبه الذي لا يختلف كثيراً عن المحافظين الجدد. وكذلك جرى فرض وزيرة الخارجية، التي تتوافق معهم في كثير من قضايا السياسة الخارجية. كما تمّ التوافق مع أوباما على حدود السياسة الممكنة، وخصوصاً في العالم، رغم أن أوباما كان يصرّح بأنه لا يريد الانسحاب من الحروب، بل يريد تقليص الوجود في العراق لمصلحة توسيع الحرب في أفغانستان.
وبهذا، عملت الاحتكارات على الالتفاف على الأزمة من خلال «التجديد» الذي كان يوحي بسياسة مختلفة تقوم على التغيير، دون أن يكون لدى الرئيس الجديد الإمكان لتحقيق هذا التغيير.
هنا يجب أن نفهم أميركا. وربما كانت من أوضح الدول التي يتحقق فيها المبدأ الماركسي بشأن سيطرة الطبقة، حيث إنّ كل بنيانها السياسي المحكم، والمتطور، يقوم على كونه واجهة منفّذة لسياسات تعدّ «في الخفاء»، وهي الاحتكارات. فهي تحكم الدولة لأنها تملكها. ولا يستطيع رئيس أو نائب الوصول إلّا بدعمها (إلّا ما ندر)، ويكون في الغالب من زبائنها، أي من المديرين الذين عملوا في أحد تلك الاحتكارات. ومن يأتِ من خارجها يوعد بأنّ يوظف في أحدها بعد انتهاء ولايته. ولهذا فإن «الطبقة السياسية» هي في الغالب هؤلاء الذين توظّفوا في الشركات الاحتكارية، وبالتالي يدخلون المجال السياسي من أجل خدمة تلك الشركات.
لكن سيبدو الأمر أوضح حين نشير إلى أنّ الدور الخارجي للدولة الأميركية هو الأهم في مجمل دورها، ويقوم على تحقيق مصالح الشركات تلك: فتح الأسواق والحصول على النفط الرخيص، وتوفير البيئة الأمنية المناسبة لنشاطها. لأن تحقيق هذه المصالح هو الذي يؤسس تماسك الوضع الداخلي، إذ يجلب الفوائض الهائلة التي تحرّك عجلة الاقتصاد، فتزيد الأرباح وتحل أزمة البطالة، وتنهي الفائض الإنتاجي، وبالتالي تفرض دورة اقتصادية نموذجية. وهذا الأمر هو الذي يفرض التداخل الشامل بين الاحتكارات والدولة، ويجعل من الدولة «خادمة» هذه الاحتكارات.
في هذا الوضع، ماذا يمكن الرئيس أن يفعل حين يتناقض مع الاحتكارات تلك؟ الاستقالة (نيكسون) أو القتل (جون كنيدي)، وربما رؤساء كثر آخرون. حيث ستكون مصالح الاحتكارات هي المقرّرة لكل السياسات العالمية والداخلية. ولهذا تعمل على رسم استراتيجيات ليس لعقود فقط بل لربع أو نصف قرن، وبالتالي لن يكون بمقدور أيّ رئيس أن يغيّر في السياسات ما دامت مشتقة من هذه الاستراتيجيات، على العكس يجب أن يتوافق معها قبل أن يصبح رئيساً. فهناك من المبادئ التي لا يجوز اللعب بها، وهناك مناطق نفوذ يجب الدفاع المستميت عنها للحفاظ عليها. وهناك قيم يجب أن تسود، وبالتالي لا يجوز أن تتغير. وبهذا سقط التغيير الذي وعد به أوباما ولم تسقط السياسات التي تقررت منذ نهاية الحرب الباردة بانهيار المنظومة الاشتراكية، والتي عبّر عنها بوش الأب ثم كلينتون، ومن ثم بوش الابن، ويجب أن يعبّر عنها أوباما الآن. وهي الاستراتيجية التي رسمها ما بات يُعرف بالمحافظين الجدد، والتي عبّرت عن تطلع الاحتكارات إلى وضع عالمي يسمح لها بتجاوز أزماتها التي كانت قد تبلورت منذ عقد السبعينات، ولم تعبّر عن ميل متطرف لدى شريحة أيديولوجية تعيش على هامش المجتمع. إن تطرف هذه الشريحة هو التعبير عن أزمة الاحتكارات، ولهذا رسمت استراتيجية تقوم على إنشاء عالم مُخضَع، حيث هذا هو الحل الوحيد لتلك الأزمة.

سقط التغيير الذي وعد به أوباما ولم تسقط السياسات التي تقررت منذ نهاية الحرب الباردة
ولا شك، بالتالي، في أنّ الشركات الاحتكارية كانت مع استمرار الحروب، واستمرار السيطرة على المواد الأولية والأسواق، وتهميش الرأسماليات الأخرى، وأيضاً إغلاق الطريق على تطور الصين وعودة روسيا قوية. لقد كانت مع استمرار السيطرة على العراق لكن بجيوش أقل، ومع محاولة حسم الحرب مع طالبان وتكريس قواعد هناك، ومع توسيع الحرب لتطاول باكستان التي يجب أن تُخضَع ويُسيطَر على قنبلتها النووية، وكذلك يجب التوسع في أفريقيا للسيطرة على المواد الأولية والأسواق. وإذا كان أوباما قد وعد بتوسيع الحرب في أفغانستان، وتوافق مع السياسة التي رسمتها إدارة بوش الابن منذ 2007، فإنّه توافق مع مجمل الاستراتيجية تلك، وتراجع عن وعوده حتى في ما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، وانتهى خطابه «السلمي» والتغييري بكل بساطة. المعركة الوحيدة التي خاضها تعلقت بإقرار قانون الضمان الصحي بعدما جرى تقزيمه من جانب الاحتكارات، وأيضاً مع وول ستريت من خلال إقرار قانون الإصلاح المالي بعدما قزّم كذلك. وبالتالي لم يحقق سوى بعض الإصلاحات الجزئية الداخلية ضمن الحدود التي سمحت بها الشركات الاحتكارية. وهو الآن عاد يفرض على السلطة الفلسطينية قبول كل الشروط الصهيونية، ويكمل ما بدأ مع بوش. ويستمر في الإعداد لحرب على إيران، ولتغيير وضع المنطقة كما تحدّد منذ البدء. فهذه هي مصالح الشركات الاحتكارية، وجزء من السعي إلى تجاوز الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأميركي قبل الأزمة المالية ومعها. وهي الأزمة التي لا ترى الشركات الاحتكارية حلاً لها إلا من خلال السيطرة على العالم، حيث أميركا إمّا القوة العظمى الوحيدة أو لا شيء. فالعالم المتعدّد الأقطاب لا يناسبها.
* كاتب عربي