عيد الشعب
لا أحد يصدق اﻹعلام الحكومي حين «يهيب بالمواطنين» أن يتوخوا الحذر في مواجهة «البلطجية» والعصابات المعنيين بتنفيذ مخطط أجنبي أو مؤامرة. كلّنا نعرف أن البلطجية عملاء الداخلية والحزب الحاكم، وأن المؤامرة الوحيدة القائمة هي مؤامرة النظام القائم على الشعب، وأن أدوات ذلك النظام باتت أقل عدداً وأضعف مما يشاع منذ غادرت قوات الشرطة مواقعها تمهيداً لفتح السجون وتهريب المجرمين قبل المعتقلين سياسياً، ثم انطلاق صغار موظفي الداخلية بالرشاشات في سيارات مسروقة إلى المناطق السكنية. من دمّر واجهات المحال وأشعل في صالاتها الحرائق؟ ومن أفرغها من بضائعها؟ لا المتظاهرون ولا «قلة مندسة». الشعب المصري كلّه قلة مندسة. وما كان شيء من هذا ليحدث لولا هزيمة الشرطة على الاسفلت. قبل معركة الجمعة وبعدها، الشرطة وابل من الطغاة الصغار، المرتزقة والمرتشين. ورغم أننا داخل المنظومة، لسنا نحن أنفسنا سوى منتفعين، لا أحد يصدّق اﻹعلام الحكومي حين يصف أول ثورة حقيقية في مصر بـ«اﻷحداث المؤسفة». إن فرحتنا هي التي ستُميتنا لا رصاص الجبناء.
أظن أن أكثر من شاركوا في التحرك بعد يوم الثلاثاء كانوا مثلي غير مسيّسين، أو غير ناشطين سياسياً. فلا فائدة من النشاط السياسي سوى التعرّض للاعتقال والإهانة، إن لم يكن العَزل والتعذيب. قبل 25 يناير، كان كل شيء يحدث على حس المعارضة اﻹسلامية، وأنت لست إسلامياً. (وحتى اﻵن لا تُستخدم فزاعة اﻹخوان ﻹخافة الشعب الذي أدرك إرادته وحقه في اﻹرادة، بل لتغذية مخاوف الإدارة اﻷميركية حيال إسرائيل). أنت لم تكن جزءاً مما يحدث ﻷنه كان يحدث على حس اﻹسلام السياسي، أقول. أما اﻵن فقد غيّر التحرك كل شيء.
التحرك؟ يوم 24 كانون الثاني (يناير)، كنت لا أزال أمزح ساخراً من كلمة «ثورة»: هل هناك ثورة بميعاد؟ مجرد «إيفينت» على «فايسبوك». لكنني في مساء 25 يناير، عدت إلى الـ«فايسبوك»، وحمّلتُ على حائطي ما تمكّنت من تصويره بهاتفي قبل المجزرة.

■ ■ ■


قرب جامع عمرو في مصر القديمة، قلتُ للرفيق نائل الطوخي: ينصحنا اﻹخوة التوانسة بدسّ خشبة في إشبمان المدرّعة لشلّها عن الحركة، لكن المهم أن نجد الخشبة. ردّ الرفيق نائل الطوخي: بل اﻷهم أن نجد الإشبمان.
صلّيت ﻷول مرة من سنين، بعدما استمعت إلى الخطيب يحثّ العباد على اجتناب الفتنة؛ قال إنّ من لا يحصل على حقه في الدنيا، سيعوّضه الله في اﻵخرة. ودعا بالبصيرة والتوفيق لرئيس الجمهورية، القائد اﻷعلى للقوات المسلحة والحاكم العسكري المنزوع الكاريزما منذ 1981: وليّ أمرنا وإمرتنا الذي أنزل به الله في ما يبدو، ولم تنزل به التداعيات البذيئة لانقلاب عسكري حاز تأييد الجماهير سنة 1952. لم يسلّم المصلون بعضهم على بعض في النهاية بحسب أعراف صلاة الجمعة. وخلال ثلاثين ثانية، كان الهتاف يدوّي من أعمق نقطة في المسجد: الشعب يريد إسقاط النظام.
الجمعة (28 ك2/ يناير)

■ ■ ■


حفلة تنكرية
وهل ظل مبارك كما عرفناه وأحببناه حاجباً على بوابة الاستقرار؟ وهل نجح، مع ذلك، في إرجاع مصر إلى العصر الجاهلي؟ يوم اﻷربعاء، سيعود اﻷمن متخفياً في هيئة متظاهرين مؤيّدين لمبارك مع ميليشيات المتنفذين في الحزب الوطني، وسط عدد كبير من المأجورين الذين عبّأهم أمن الدولة أو أخرجتهم السلطات إلى الشوارع عوضاً عن أداء عملهم في المؤسسات الرسمية (وسيكون عبد المنعم سعيد من البذاءة بحيث يسمّي ما قاموا به ثورة ثانية). لا شك في أن هناك مَن يؤيّد مبارك بصدق، إما ﻷنّه خائف أو ﻷنه مستفيد. وحتى إن لم يكن هذا تفسيراً مقنعاً، من حق أيّ كان أن يؤيّد مبارك. السوريالي حقاً أن ترى النوق والخيول قد اقتحمت الميدان على المعتصمين. وقبل أن تلتقط نفسك، تسمع اﻷمن وعملاءه يحاولون تصفية المعتصمين بالرصاص الحي...
(صباح الخميس 3 شباط/ فبراير)

■ ■ ■


ليست «شعب» الكلمة الوحيدة التي استرددناها عشية اجتماعنا بأعداد تذكّر فعلاً بحجّ المسلمين. أصبح للوطن معنى أيضاً، للثورة والعدالة واﻹصلاح. منذ التحرك، أصبحت كلمات واضحة ذات معنى، وكان النظام يتفوّق علينا كل لحظة في إثبات أن معناها ينحصر في ما ينقض وجوده وينافي شرعيته. لا بد من أن نبصق على النظام وأجهزته اﻷمنية، وخصوصاً حتى يمكننا الكلام في أمور غير شخصية، هذا ما أكدته لنا التطورات.
مليون شخص على اﻷقل بامتداد ميدان التحرير والمناطق المحيطة طوال ثلاثائنا السعيد الذي قطعه علينا بلطجية الحزب الوطني وأفراد أمن الدولة والشرطة في ثوبها الجديد، وبحجة أن ثمة من يؤيّد مبارك... لعل للاستقرار معنى إذاً. لعل له معنى سوى أن تُستخدم المرافق والموارد العامة بنحو منظّم في اﻹنفاق على بعض العاملين لدى الدولة البوليسية وخدمتهم، وأن يتحول التعليم والتوظيف بل العمل النقابي ثم كل ما يمكن إنتاجه أو تنميته إلى شبكات مصالح عائلية، آخر ما يعني القائمين عليها هو المهنية أو الجودة، وأكثر ما يهمهم هو التكريس لمساحات الاستفادة المباشرة التي تمكّنوا من شغلها داخل إطار القانون أو خارجه، وعلى حساب السبب المفترض لوجودهم في المكان. كأن الحياة نفسها تمثيلية صمّمت من أجل حماية وإثراء من يشغلون المناصب بلا أي عقل وبما يقوّض المناصب نفسها.
غابة الديناصورات اﻷليفة وسلسلة أفلام عودة المومياء. هل لهذا ظلت مصر كل هذا الوقت من الخراء بحيث يستحيل الانتماء إليها؟ لقد استبدلنا المساءلة بالتملّق، والدقة بالتعريس، وليس سوى «بلطجي» يحمل رشاشاً لا تعرف إن كان من سكان العشوائيات أو أمين شرطة متخفياً.
لعل للاستقرار معنى سوى التنفيذ اﻷوتوماتيكي لسياسات أميركا في الشرق اﻷوسط بلا أي اعتبار لمشاعر الناس. من جهة أخرى، بغض النظر عن «الخطر اﻹسلامي» الذي يتربص بنا ـــــ نستقبل وزيرة الخارجية اﻹسرائيلية عشية القصف في غزة، كأنما لنبارك لها أنّ الله هداها إلى استعمال الفوسفور اﻷبيض ضد اﻷبرياء من مواطنينا الغزاويين... ولا كلمة ـــــ أو أن يشعر مواطنو بلد، لم نع أهميته حتى توقفت فيه الحياة، بالذل أينما ذهبوا في العالم وقد حدسوا أن بلدهم لا بد من أن يكون مثلهم: شيئاً رخيصاً بلا قيمة، غير صالح للدخول في مجريات الحضارة اﻹنسانية ثم جديراً بالاحتقار.
(الثلاثاء 1 شباط / فبراير)

■ ■ ■


شهادة
أكتب اﻵن وقد استعدت ثقتي بعد مجزرة أمس. وقبل أن تنتهي الجملة، قد أفقد الثقة من جديد. في ميدان التحرير اﻵن عشرات اﻵلاف من الناس العاديين غير الطامعين في سلطة أو نفوذ. في ميدان التحرير مئات وربما آلاف من البلطجية المتربصين بهم، والمحسوبين على نوع آخر من الناس العاديين: أناس يفضّلون تقمّص دور «رامبو» لحماية ممتلكاتهم الخاصة على ضمان إمكان ممارسة حقوقهم المدنية. وفي ميدان التحرير، أفراد الجيش المصرّون أكثر فأكثر على تطبيق حظر التجوال، والبادي انحيازهم إلى النظام في الساعات اﻷخيرة. مرّ أسبوع منذ حضرت معركة الجمعة. وغداً على اﻷرجح سأحضر معركة ثانية. في مثل هذا الوقت من ليلة أمس، بدأ ضرب النار على المتظاهرين. أصوات متفرقة وسط صمت الشارع. من أجل كل ما رأيته ومن أجلي: تحيا الثورة. تحيا الثورة. لكنني أكذب لو قلت إنني أعرف أيّ شيء.
(القاهرة)