فرغت «العصفوريّة» من البشر. صارت جنةً للطيور التي تجد بين أشجار الصنوبر والمباني التاريخية ملاذاً لها. مبانٍ تذكّر الزائر بالجامعة الأميركية في بيروت. فقد شيّدت «العصفورية» على يد متابعين من الإرساليات الأميركيّة في نهاية 1890، بعد إذنٍ من السلطنة العثمانية. وهي تمتد على مساحة 130 ألف متر مربع من الأرض الخضراء، وتضم 46 مبنى. وهكذا كانت، في مطلع القرن الماضي، أكبر مستشفى للأمراض العقلية في الشرق الأوسط. وربما، أسهمت ضخامة حجم المصح في تركيز الكلمة في الذاكرة الجماعية اللبنانيّة، إذ بات أيّ مستشفى للأمراض العقلية يحمل اسم «العصفورية». وحتى حينما توقف استعمال المصح سنة 1972، بقيت مفردة «العصفورية» متداولة، وألصقت بمستشفى دير الصليب.

لكن، جهة استعمال العقار تغيرّت سنة 1972، حين استملكته شركة «Geffinor» لإنشاء مدينة سكنية عليه. آنذاك، بدأت «مجزرة» المباني التاريخية التي أخليت من المرضى. فعملية التفكيك امتدت خلال الحرب الأهلية، وكان كل «طالب حجر» في منطقة، يجد في العصفورية ملاذه. لم يبق من «المدينة» إلا ثلاثة مبان: أكبرها كان إدارة المستشفى، والثاني والثالث كان المرضى يقيمون فيهما. المبنى الأساسي شيدّ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد بني بالحجر الأصفر، وغُطّي سقفه بالقرميد. هذا المبنى حاله جيدة، وتحيط به حديقة نمت أشجارها تزامناً مع نمو المبنى. وعلى بعد أمتار، يستكين المبنى الثاني، المغطى بالقرميد أيضاً. يعود الأخير إلى خمسينات القرن الماضي، وكان يُستعمل مستشفى. هذا المبنى بحال جيدة، ويمكن المحافظة عليه. أما المبنى الثالث، فهندسته مغايرة تماماً. فيه بهو واسع، تحيط به غرف وأروقة متصلة بعضها ببعض، عبر قناطر من الباطون. سقف المبنى الثالث دمر منذ سنين، لكن الجدران صامدة والقناطر لم تسقط بعد.
عملياً، تتطلب المحافظة على هذه المباني طلباً قانونيّاً، إذا أدرجتها المديرية العامة للآثار في الجرد العام، أو بناءً على طلب مالكي العقار منذ 2008، لكن، هنا تصبح القصة شائكة قليلاً. وقتذاك، أبرمت صفقة. باعت شركة «الجفينور» العقار إلى عبد الله تماري، (معروف بأنه الواجهة الرئيسية لأعمال شركة سوليدير)، بمبلغ 100 مليون دولار أميركي، أي بسعر يوازي 1052 دولاراً للمتر المربع الواحد، أو ما يعادل 500 دولار لمتر الهواء (متر البناء)، على أساس أن الحدّ الأقصى لعامل الاستثمار في هذه الأرض يسمح بتشييد 200 ألف متر مربع، لكن، تداول المتابعون معلومات، أخيراً، تفيد بأن الشركة «استحصلت من التنظيم المدني على إذن لإقامة أبراج يصل ارتفاعها الى 80 متراً، وزادت بذلك عامل الاستثمار، إضافة إلى أن سعر العقارات ارتفع لدرجة أن متر الأرض بات يوازي 3 آلاف دولار أميركي». وتالياً، باتت قيمة المشروع تتخطى 300 مليون دولار للعقار. وإلى ذلك، طرحت «قرية بيروت»، أخيراً، على سوق الاستثمار، تحت إشراف البنك العربي (المعروف بنفوذ آل الحريري داخل إدارته)، وMed Securities Investment التي تتبع Bank Med الذي يملكه آل الحريري، إعلاناً تسويقيّاً، يقول إن شركة سوليدير الدولية ستدير المشروع. أما سبب اختيارها، في الإعلان المذكور، فلا يعود إلى كونها تملك العقار، بل إلى «حسن إدارتها إعمار وسط بيروت». في العصفورية، تبلغ قيمة الاستثمار 59 مليون دولار، وأدنى مبلغ للاستثمار هو 250 ألف دولار أميركي.

وبما أن سوليدير تدير المشروع، فمن المرجح أنها تعرف كيف تستغل المباني التاريخية لتسويق مشروعها، لكنها، في الوقت عينه، ترفض إبقاء صلة بينه وبين تاريخه كمصح للأمراض العقلية، رفضاً قاطعاً. وحين تقدمت شركة إنتاج تعمل على فيلم درامي، يتناول حياة الأديبة مي زيادة، بطلب لتصوير جزء من المسلسل في المصح الذي قضت فيه الكاتبة جزءاً من عمرها، رُفض الطلب، ومُنع دخول الزائرين الى المكان. إذاً، لا تريد سوليدير لأحد أن يتذكر أن «قرية بيروت» كانت مصحاً عقلياً يؤوي المئات من المرضى. وعلى الملصق الإعلامي، لطلب الاستثمار عرف المستشفى كالآتي: «البيت العثماني». وفي التصورات الأولى للمشروع، يمكن رؤية تغير معالم المنطقة الحالية بسهولة. استبدلت غابات الصنوبر بمساحات خضراء تنتشر فيها... أشجار النخيل!