«الفان بألف وخمسة»

كانت الأوراق ملصقة بطريقة لا يمكن للركاب إلا أن يشاهدوها: على باب الفان، في الفسحة بين السائق والركاب. أما في الباصات الكبيرة، فقد أُلصقت تقريباً على كل شباك من الجهتين وبخط عريض: ابتداءً من الاثنين(غداً) أجرة الراكب 1500 ليرة.
«هلّق عم تمزحوا ولا عم تحكوا جدّ؟» تسأل السيدة التي طلعت للتوّ من منطقة الصنايع، والمتوجهة الى حي السلّم، وهو مشوار طويل لا يتكفّل بتحمّل كلفته العالية نسبياً، إلا نقل مشترك تابع للدولة أو «فان»، في بلاد محرومة من النقل المشترك المحترم، لاستعاضتها ـ بطلاقة وزير النقل ـ عن فاعلية وزارته المرجوّة.
و«الفان»، للقراء من غير اللبنانيين، أو الميكروباص، هو الصيغة الجديدة التي انتهى إليها «اجتهاد» الشوفارية والركاب، المنكوبين بارتفاع أسعار الوقود المطّرد على وقع الاضطرابات العالمية. فمنذ رفع وزير النقل السابق والحالي غازي العريضي أجرة الراكب رسمياً إلى 1750 ليرة، وارتضاء قسم من الركاب دفع ألفي ليرة فعلياً، تلافياً «لزناخة الفراطة»، وعجز القسم الآخر عن دفع هذه الأجرة، بدا أن «صيغة السرفيس»، وهو اختراع لبناني آخر قائم على تشارك الركاب على خط واحد بكلفة المشوار، انتهى.
هكذا، «فتّشوا وبلقشوا» فلم يجدوا إلا الميكروباص المُعدّ للأغراض السياحية، كونه يستوعب ما يناهز 12 راكباً، عدا الراكب إلى جانب السائق، الذي أصبح بسهولة فائقة راكبان. هكذا، يصبح المشوار البعيد، كمشوار الحمرا ـ الحدث، «محرزاً» للسائق، وغير ثقيل الكلفة على الركاب الكثر. وسريعاً، «هجموا العالم ع الخضرة»،كما يقول مارسيل خليفة، ومَن لم يستطع امتلاك فان ذو أصول سياحية، لجأ الى «قولبة» الفانات غير السياحية، كونها أرخص، وتركيب مقاعد في داخلها «كيف ما كان». هكذا، أصبحت هناك «موديلات» جديدة من الفانات، نوع من «هوندا بتصرّف» و«نيسان بتصرّف»، وهو «تصرّف» لم يخطر ببال كبرى الشركات التي صنعتها. والسلوك مستحبّ أحياناً، بإطلاقه للمخيّلة الشعبية الحرية في قولبة السلعة بما يناسب الحاجات المحلية، وبخرقه للمسلّمات الاستهلاكية لمصالح كبرى الشركات الجشعة، لولا أن قواعد السلامة العامة مفتقدَة في تلك «المصنوعات» الهجينة إلى درجة مهولة.
ومع «الركّ» على الفانات، خاصة تلك التي تخترق الضواحي وصولاً إلى قلب المركز في بيروت ـ حيث يبدو ان كل اللبنانيين يعملون هنا ـ «تدهدكت»، أي تدهورت حالة الفانات، الشرعية منها خاصة، ذلك أننا لن نتكلم الآن عن تلك «المطروشة» النمر بأحمر العمومي المزيّف.
ويمكن لأي متابع أن يدرك درجة هذا «الركّ»، أي الاتكال، على الفانات بدلاً من نقل مشترك رسمي تمنع تحقّقه على ما يبدو «أشباح» تحدّث عنها وزير النقل لـ«الأخبار» في ما مضى، ولم تعد تعرف هويتها الآن في الحكومة الجديدة، وذلك بمراقبة عشر دقائق فقط صباحاً ومساءً للفان رقم «4» الشهير. فهذا «الفان» الممتد خطّه من مستشفى الجامعة الأميركية إلى الجامعة اللبنانية في منطقة الحدث، يخرج مساءً من منطقة الحمرا، في أيام العمل العادية، وقد حُشر الركاب ـ حرفياً ـ كسمك السردين داخله، لدرجة أن ركاب الحمرا أنفسهم، لا يجدون موطئ قدم، فعلياً وحرفياً، إلا بعد مرور ربع إلى نصف ساعة من الانتظار! ولو عاد الأمر لأصحاب الفانات، لأقلّوا الركاب «راس وكعب» و«اللي مش عاجبو ينزل هلّق» كما يحب السائقون، المفتقر بعضهم إلى أبسط قواعد الأدب، ان يقولوا للركاب.
هكذا، أصبح من النادر، ومنذ فترة، أن تجد «فاناً» تستقيم فيه قواعد السلامة العامة، هذا في الظاهر، أما في الباطن، أي بما يخصّ الميكانيك والصيانة، فالله أعلم. ولكن بإمكاننا الاستنتاج من الحالة الظاهرة للمقاعد المركّبة كيفما اتُّفق، والمقاعد النقّالة التي تُثبّت كيفما كان، للأبواب المخلّعة من الداخل والفرش المنبوش لغالبية الفانات.. الخ.
ولكي يكتمل «النقل بالزعرور»، كما يقول التعبير الشعبي، فقد أعلن مَن تبقّى من سرفيسات عاملة على الخط في بيروت، أو لنقل الكثير من سيارات السرفيس في بيروت، طالما أننا لم نستقلّها جميعها، عن رفع الأجرة بدورهم، وبواسطة الملصقات ذاتها، الى3 آلاف ليرة.
هكذا، بمبادرة ذاتية، دون التفاوض مع الدولة، حسب القانون، والتي لا تزال أجرة راكب السرفيس كما أقرّتها 1750 ليرة. ومن دون العودة إلى نقابة سائقي السيارات العمومية، على ما أفادنا به النقيب عبد الأمير نجدة، الذي أعرب في اتصال مع «الأخبار» عن معارضته لهذا الرفع غير الشرعي للأجرة.
ماذا سيفعل الركاب غداً؟ فمن المعروف أن الركاب، بخلاف بعض الأجانب الذين لا يأنفون من استقلال «الفان»، أو من أمثالنا أنصار أي نقل مشترك، هم في سوادهم الأعظم غير قادرين على دفع «زودة» هي، إلى لاشرعيتها، خارجة عن قدرتهم المادية. فغالبيتهم من قدامى الطبقة الوسطى، الذين فرزهم رفع الأجرة السابق إلى 1750 ليرة، عن ركاب السرفيسات الحاليين، وبالطبع عن أصحاب السيارات الخاصة المتزايدين اضطراراً. بكلام آخر، هم مَن «تفرِق» في ميزانيتهم الشهرية الـ«750» ليرة، فماذا سيفعلون؟ هل ستدّب الخناقات في الفانات في ظل تشنّج طائفي مرتكز على الضائقة المادية؟ هل ستمنع الدولة تنفيذ هذا «التهديد» لميزانيات اللبنانيين الأفقر المتزايدين باضطراد؟ وبأي عين ستقوم بذلك إذا لم توفّر للبنانيين نقلاً مشتركاً محترماً وآمناً؟
لا أعرف. كل ما أعرفه أنه إن كان «النأي بالنفس» عن الوضع السوري أو غيره صائباً، فإن «النأي بالنفس» عن تأمين البنى التحتية الأساسية للاقتصاد، ولو كان حراً، من نوع شقّ الطرقات وتأمين النقل المشترك، لم تعد «زابطة».
فحتى لو كنت تريد أن تستمر باستغلال العمال، أمّن لهم على الأقل أن يصلوا إلى أشغالهم!

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/13/2012 7:06:31 AM

موضوع مهم ... تشكرين عليه ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/13/2012 7:00:40 AM

ما على اساس حكومة الـــ إصلاح و التغيير و و حزب والي الفقيه بدها تحول لبنان لبلد اللبن و العسل !

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/13/2012 1:32:54 AM

اعتقد ان استخدام عبارة "النقل بالزعرور" يضيّع المعنى، فالمثل الشعبي يعني إضافة شيء لا قيمة له (الزعرور) إلى شيء ذو قيمة معينة (النقل).

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/13/2012 12:45:05 AM

ضحى أنت شخص مهم جدا في هذا الزمن الصعب لديك قدره رائعه على استخدام حواسك الخمس وترجمة ما تلتقطه بطريقه تجعلنا نتمتع بروعة نقل وتشريح مايحيط بنا ، أرى احيانا ماتكتبيه أقرب الى السينما "أنت الكاتب والمخرج والممثل " أتمنى أن ترفقي صوره بكمرتك الخاصه عن ماتكتبين"

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/12/2012 7:20:27 PM

وحياة الناتو عسل .. انتي عسل ياست ضحى .. جمال الاريتري

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم