تنقضي اليوم، مع وصول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية ميخائيل فرادكوف إلى دمشق، عشرة أيام على قرار الرئيس السوري بشّار الأسد، في 26 كانون الثاني، الحسم العسكري ضد معارضيه المسلحين في أرياف دمشق وحمص وإدلب، وخوض حرب شوارع معهم. ومع أن زيارة الوفد الروسي لا تقلّل وطأة الحسم، ولا تأتي حكماً لوقفه، أو حمل القيادة السورية على إلقاء السلاح في وجه معارضيها، إلا أنها تبرز، في توقيتها، مزيداً من الدعم الروسي للأسد في خطوة عاجلة، تالية لاستخدام موسكو الفيتو في مجلس الأمن في الرابع من الشهر الجاري. وبحسب جهات واسعة الاطلاع على علاقة دمشق بموسكو، تكمن الزيارة في المعطيات الآتية:
1 ـــ أنها الأولى للافروف إلى دمشق منذ اندلاع الاضطرابات في سوريا في 15 آذار 2011. وتأتي تحت عنوان عريض معلن هو استكشاف موقف القيادة السورية من التطورات الأخيرة، وعنوان آخر مضمر يتناول الإجراءات التي اتخذها الأسد في سبيل استعجال سيطرته على أوسع نطاق من البلاد.
2 ـــ أنها من المرات النادرة في مجلس الأمن، بعد 5 تشرين الأول، التي استخدمت روسيا والصين فيها فيتو مزدوجاً في قرار يستهدف النظام السوري. لم تدرج موسكو على استخدام هذا السلاح تكراراً كواشنطن التي لجأت إليه حتى الآن 200 مرة على الأقل دفاعاً عن إسرائيل، ولم تعتد كذلك استخدامه مرتين على التوالي من أجل دولة واحدة كسوريا. الأمر نفسه بالنسبة إلى الصين التي لا تستخدم الفيتو دفاعاً عن بلاد بعيدة عن حدودها. وهو سلاحها في منطقة نفوذها في الشرق الأقصى، من أجل كوريا الشمالية مثلاً.
إلا أن دمشق تبلّغت أكثر من مرة، قبل الفيتو وبعده، دوافع اتخاذه. وهي أن ما يجري في سوريا بات في صلب المصالح الاستراتيجية لروسيا. اطمأن الأسد، وتيقن ممّا اطّلع عليه، إلى الآن على الأقل، من جدّية موقف موسكو حياله، وهو أنها لن تتخلى عنه. بل باتت دمشق أكثر اطمئناناً، بعدما أصبحت المسألة السورية أزمة دولية تورّط فيها الغرب والشرق معاً، وأذِنت الفيتوات المتبادلة بحرب باردة تضمن التوازن في الشرق الأوسط، وترجّح كفة النظام في البقاء ومقاومة الضغوط الدولية، وتشلّ مقدرة مجلس الأمن على التحرّك. في ظلّ حرب باردة كهذه، لا قرار يصدر عن مجلس الأمن.
3 ـــ يحضر لافروف إلى العاصمة السورية متسلّحاً بثلاث لاءات يُنتظر أن يُعيد تأكيدها في محادثاته مع المسؤولين السوريين، وخصوصاً الأسد: لا للتدخل العسكري في سوريا، لا لتنحّي الرئيس السوري، لا لسيطرة المسلحين على أجزاء من البلاد. بيد أن موسكو تتمسّك أيضاً بالحوار الداخلي بين الرئيس السوري ومعارضيه.
وتبعاً للمطّلعين أنفسهم، تكمن مخاوف موسكو ــــ وهو مبعث تشجيعها الأسد على الحسم العسكري ــــ في أن اتفاقاً بين الرئيس السوري ومعارضيه تناوئه الجماعات المسلحة من شأنه نسف كل جهود التسوية الداخلية. لذا تميل إلى إخراج هؤلاء من المعادلة بغية ضمان نجاح حوار داخلي تدعو إليه روسيا.
بل الواقع أن لروسيا موقفاً تبلغته القيادة السورية قبل أشهر، وهو أن لا تسوية بلا الأسد. الرئيس السوري سقف أي حوار وطني وخطة للإصلاحات لإخراج البلاد من محنتها. بعد المبادرة العربية الأخيرة التي نادت بتنحّي الأسد، أصبحت موسكو أكثر تشبّثاً به.
خيار تدريجي
في ضوء الموقف الروسي واطمئنانها إلى دعمه لها، أجرت القيادة السورية على أثر مبادرة الجامعة العربية، في 22 كانون الثاني، مراجعة للخيارات المفتوحة أمامها. واستندت بدورها إلى ملاحظات:
أولاها، ارتفاع وتيرة العنف والنزاع المسلح مع بدء مناقشات غير رسمية في مجلس الأمن لوضع مشروع قرار يدعم مبادرة الجامعة بغية إحراج الروس، بالتزامن مع قرار الجامعة سحب فريق المراقبين العرب وإنهاء مهمتهم تماماً. وقد نظرت دمشق بإيجابية إلى مهمتهم عندما وثّقوا هجمات مسلحين على رجال الجيش والشرطة والمنشآت العامة، ودعموا وجهة نظر القيادة السورية بأن الجيش يُواجه مسلحين وليس متظاهرين عُزّلاً. ثم وجدت القيادة في سحب المراقبين بعد إنهاء مهمتهم رسالة إلى النظام بأن عليه الاستعداد للدخول في الفوضى، مع إعلان دعم المعارضة المسلحة. ولاحظت دمشق أن الجامعة تطلب من الأسد وقف العنف والتخلي عن صلاحياته والانكفاء، وتعمل في الوقت نفسه على مدّ المسلحين بالمال والسلاح.
ثانيتها، أن لا حسم عسكرياً شاملاً في حال كالتي تتخبّط فيها سوريا، ولا مُدد زمنية نهائية له. لكن في وسع الجيش اتخاذ إجراءات بحسم متدرّج تعبّر عنه سياسة الاستعادة بالقضم الذي يبدأ من المناطق الأكثر أهمية وسخونة، والأكثر عرضة للتهديد: أرياف دمشق وحمص وإدلب.
منذ 27 كانون الثاني، بدأت الحملة العسكرية من ريف دمشق. نُظِر بداية إلى هذا الريف على أنه هدف سهل رغم سيطرة المسلحين على بعض القرى وإغلاقها في وجه السلطة. سرعان ما استعادتها هذه. إلا أن التحرّك الفعلي للحسم العسكري هو في ريفي حمص وإدلب، نظراً إلى اتصال كل منهما بحدود سوريا مع لبنان وتركيا.
كانت هذه الحدود مصدر تسلّل مسلحين وتهريب أسلحة. عدّت القيادة السورية ريف حمص بؤرة مثالية للتيّارات المتشدّدة ولمسلحين كانوا يُستخدمون في مقاومة الجيش الأميركي في العراق ويلوذون بحمص، فضلاً عن الامتدادين الجغرافي والأمني الذي يُسهّل الانتقال والتهريب بين حمص وشمال لبنان. الأمر نفسه بالنسبة إلى القرى المتاخمة في ريف إدلب للحدود مع تركيا، فشنّ الجيش هجمات عليها.
وتبعاً لقرار الحسم الذي اتخذته القيادة السورية، اقترن بصنفي عمليات عسكرية: هجمات على القرى والبلدات التي يسيطر فيها المسلحون، والانتشار على حدود ريفي حمص وإدلب لمنع تهريب أسلحة إلى الداخل السوري، وقطع طرق يستخدمها أفرقاء لبنانيون والسلطات التركية لمدّ المسلحين بالسلاح أو توفير ملاذ آمن لهم.
ثالثتها، أن الجيش وأجهزة استخباراته أصبحا أكثر استيعاباً لما يجري في البلاد. شكّل انفجار الاضطرابات واتخاذها نشاطاً مسلحاً مفاجئاً راح يتفاقم في الأشهر الأربعة الأولى، صدمة ضعضعت قدرات الجيش وهو يواجه عصياناً لم يكن خبره لأربعة عقود، إذا كان لا بد من استثناء الصدام المسلح مع الإخوان المسلمين بين عامي 1976 و1982 وبلغ ذروة في أحداث حماة في 2 شباط 1982. وإذا بالمؤسسة العسكرية والأمنية أمام فوضى غير مألوفة تطلّبت بعض الوقت لاستيعاب التهديدات، قبل أن يبادر الجيش في الأشهر الأخيرة إلى استعادة المبادرة العسكرية.
كانت مراجعة القيادة العسكرية لأخطائها التي ترجّحت بين النقص في المعلومات والتراخي وتجاهل قدرات الخصم، إضافة إلى ما تعتبره حالات فرار ــــ والمقصود بذلك الانشقاق ــــ بنسبة لم تزد على 10 في المئة، ولم يُتح للمعارضة العثور على لواء واحد من 2000، وعميد واحد من 10 الآف في الجيش تضعه على رأس الانشقاق ... قد قادتها إلى إيلاء الحسم العسكري أولوية استعادة السيطرة على البلاد.