لا غرابة في أن تكون الحرب مصدر افتتان لأغلب الذّكور على مرّ التاريخ، فالحرب هي أقرب ما يملكه الرجل غير المثلي إلى فن الرقص. المعركة، في الحقيقة، تشبه رقصةً يشترك فيها آلاف الرجال، بتنسيق متناهٍ في الدقة، تجمعهم إرادة واحدة وقلبٌ واحد، وغريزة البقاء. في رواية ألكسندر بيك عن الحرب العالمية الثانية، «قصة الرعب والجرأة»، يقول بطل الرواية ــ وهو ضابطٌ في الجيش الأحمر ــ لمحدّثه: «إنّك تعرف فرحة الحب، وربما فرحة الإبداع. وقد تكون زوجتك قد شاطرتك فرحة الأمومة، لكن من لم يعرف فرحة النصر على العدو، فرحة البطولة في الحرب، لا يعرف الفرحة الكبرى». كتب الأديب الأميركي الراحل نورمان مايلر، عشية غزو بوش للعراق، أنّ الذكر الأميركي الأبيض قد «أُخضعت» رجولته بعد حرب فييتنام. انتهى عهد التجنيد وعاد الرجل الأميركي الى منزله، ليكتشف أنّ حركة الحقوق المدنية قد ضربت أوتادها في المجتمع، وليجد أنّ الثقافة الجديدة تسلبه كلّ المعاني التقليدية لـ«الرجولة». صار الأميركي الأبيض «مجبراً» على مخاطبة مواطنه الأسود باحترام، والتلفزيون يقول له باستمرار إنّ عليه تقبّل المرأة نظيراً مساوياً له في المجتمع. تحوّلت الرياضة وأنديتها وحماستها، كتب مايلر، الى المجال الوحيد الذي يمارس فيه الأميركي «ذكورته» الحربية بحرية وانطلاق. ثم جاءت ادارة بوش الجمهورية وغزواتها في الشرق لتعطي الذكر الأبيض منفذاً جديداً يحيا عبره «رجولته»...

شروط المعركة

كقاعدة عامة في زمن القطب الواحد، أميركا لا تغزو بلداً وهو متماسكٌ متراصّ. في غياب انقساماتٍ داخلية يمكن استغلالها، أو فرقاء محليين يمكن تجنيدهم، تعتمد الاستراتيجية الأميركية دوماً على إضعاف العدو وإرهاقه قبل الدخول في مواجهة حربية: تضرب واشنطن حول الدولة المستهدفة حصاراً اقتصادياً لسنوات (أو لعقود)، وحصاراً تكنولوجياً وعسكرياً. فقط عندما يجري الاطمئنان الى أنّ البلد قد صار متخلفاً تقنياً وعسكرياً، وقد انهار الاقتصاد وخربت التنمية وكفر الناس بالنظام وايديولوجيته، عندئذٍ تبدأ المعركة. ايران تعيش هذا النوع من المواجهة مع واشنطن منذ الثورة الإسلامية في 1979. تشبه المعادلة بين ايران واميركا الى حد ما المعادلة القائمة بين المقاومة اللبنانية واسرائيل: اذا تمكّنت اميركا من ضرب ايران بكلفة مقبولة في العام القادم، فهي ستفعل، ولو لاحت لها الفرصة في العام الحالي، فهي لن تنتظر، ولو أتيحت لها الإمكانية نفسها السنة الماضية، لكانت الحرب قد نشبت وانتهت.
تحاصر الولايات المتحدة ايران بحزمة من العقوبات لم يُفرض ما يشابهها على عراق التسعينات. القرار الأميركي الذي وقّعه اوباما قبيل انتهاء العام الماضي، قلما عرفت العلاقات الدولية مثيلاً له، إذ إنّه ــ عملياً ــ يخيّر جميع دول العالم وشركاته بين التعامل مع المصرف المركزي الإيراني أو التعامل المالي مع أميركا. في الوقت نفسه، تخوض أميركا واسرائيل حرباً فعلية منخفضة الحدّة ضد ايران: تفجيرات في المنشآت العسكرية والصناعية، اغتيالات متواصلة لعلماء ومهندسين، اختراق يومي للأجواء الإيرانية بطائرات التجسس، وتهديدات صريحة بالحرب.
لو أنّ رفسنجاني وخاتمي كانا قد تمكنا من أخذ رؤيتهما الاقتصادية، الليبرالية والتخصيصية والمبهورة بنظريات البنك الدولي، إلى مداها الأقصى، لكان الشعب الايراني يتضور جوعاً اليوم، ولما كانت ايران قادرة على بناء معمل طاقة أو اكمال مشروع غاز أو إبقاء طائرة في الجو ــ مدنية كانت أم عسكرية. ظروف معركة ايران تجعل من كل شيء في البلد جزءاً من المواجهة الدائرة: السياسة الاقتصادية، السياسة الصناعية، استهلاك الوقود... (الوضع في لبنان مشابه، لكن لبنان الرسمي والثقافي، ببساطة، اختار أن يتجاهل هذا الواقع).
تعيش إيران على وقع تلك «الحرب الشاملة» منذ الثمانينات، وقد بنى لها مير حسين موسوي وخلفاؤه، خلال الحرب مع العراق، اقتصاداً من نمط خاص، شكّلته التجربة القاسية، ليتعايش مع أسوأ الظروف وأقسى العقوبات. تخيّلوا كم من الصعب أن يجد بلدٌ ما نفسه، اليوم، في مواجهة مع الولايات المتحدة وإرادتها الإمبراطورية. اسألوا كوبا والمكسيك والعراق: لكأنّما الشمس لا تشرق على الوطن المغضوب عليه! تخيّلوا الآن أنّ ايران، في زمن القطبين والحرب الباردة، كانت قد وجدت نفسها مجبرة على القتال ثماني سنوات ضدّ إرادة الأميركيين والسوفيات في آن واحد.
سياسة ايران الدفاعية مستمدّةٌ أيضاً من أتون الحرب والتجربة، لا من النظريات الأكاديمية والمستشارين الأجانب. ايران، مثلاً، قررت منذ أكثر من عقدين ألا تنفق قرشاً واحداً على توسيع سلاح طيرانها. عقدت ايران مع روسيا صفقة متوسطة الحجم، في أوائل التسعينات، لشراء «ميغ ــ 29»، ثم اكتفت بصيانة واطالة أمد اسطولها الأميركي القديم ــ الذي يفوق عمر طائراته عمر أغلب قرّاء هذا المقال.
التعليل بسيط: الإيرانيون يفهمون أنّ أيّ مواجهة مع قوة غربية ستبدأ بتدمير الطيران الإيراني على آخره، في الساعات الأولى للحرب، وهذا، بالذات، هو نوع المعركة التي تستعد لها ايران. بناء قوة جوية على مستوى الطيران الأميركي كفيلٌ بإفلاس خمس دول بحجم ايران ــ ولا يظنّن أحد أنّ المواجهة بين اميركا والجمهورية الإسلامية هي موقعةٌ بين متكافئين، إذ يصوّر بعض الاعلام العربي ايران على أنّها «إمبراطورية» تنافس اميركا ــ دخل ايران القومي برمته يقل عن حجم اقتصاد ولاية اميركية متوسطة الحجم. وأقصى ما تريده ايران من أميركا (على مدى العقود الماضية) هو أن «تتركها في حالها»، فيما استراتيجية الغرب مع ايران هجومية، وترمي الى قلب نظام الجمهورية الاسلامية أو خنقه قدر الإمكان، وحرمانه فرصة التنمية، اذا تعذر التغيير بالقوة المباشرة.

«الحرب اللامتكافئة»

بدلاً من الاستثمار في سلاح الجو الباهظ التكلفة، اختار الإيرانيون أن يركزوا أموالهم وأبحاثهم على وسائط أخرى، كبناء الصواريخ وإتقان صنعها. الصواريخ، منذ الحرب العالمية الثانية، تصلح سلاحاً للطرف الفقير أمام خصم غني بالموارد. الصاروخ هو، عملياً، وسيلة رخيصة وسهلة الاستعمال، لإيصال أطنان من المتفجرات الى عمق جبهة العدو ــ أي إنّه يستبدل الدور الهجومي للطائرة. تحسّنت تلك المعادلة باطراد مع تقدم التكنولوجيا، التي تجعل الصواريخ أكثر دقة مع مرور الزمن، فيما سعر الطائرات والوسائط المضادة في ارتفاع مستمر. على سبيل المثال، انتاج صواريخ شهاب ــ 3، يصبح عملية زهيدة الكلفة ما إن تُغرق الرأسمال التأسيسي اللازم لتعلّم التقنية وتنشئة الكوادر وبناء خطوط الإنتاج. في المقابل، صاروخ «آرو ــ 2» الذي تستخدمه اسرائيل للدفاع عن جبهتها ضد «شهاب» وما يماثله، يكلف أكثر من مليونين ونصف مليون من الدولارات للطلقة الواحدة. أما الحاوية الواحدة في بطارية «باتريوت باك ــ 3» (وهي تحمل أربعة صواريخ)، فتكلف 12 الى 15 مليون دولار. المنهج الأميركي يعتمد على اطلاق صاروخين على الأقل، لاعتراض كل هدف، وانتاج كل صاروخ شهاب اضافي قد يكلف مئات آلاف الدولارات، لا أكثر. هذا هو نوع المعادلات الذي يضعك في حالة أفضلية ضد الخصم، وهذا الأمر اكتشفه الصينيون قبل الإيرانيين، وهم كانوا من الرواد في استعمال الصواريخ البالستية لأهداف الحرب التقليدية، بعدما كان استخدامها من قبل القوى العظمى مقتصراً على إيصال الحمولات النووية والكيميائية.
في ايران، تجد مزيجاً غريباً من النسخ والتطوير والتعديل في معدّات الجيش وتكتيكاته. منذ أشهر، جربت ايران صاروخ أرض ــ سطح جديداً، مضاداً للسفن يصلح مثالاً لتوصيف الترسانة الإيرانية: السلاح هو في الحقيقة تطويرٌ وتعديلٌ لصاروخ أرض ــ أرض ايراني اسمه «توندار»، هو نفسه تعديلٌ لصاروخ أرض ــ جو صيني اسمه اس ــ 200، هو، بدوره، نتاج تحديث وتطوير صاروخ سام ــ 2 السوفياتي العتيق!
العديد من الخبرات الإيرانية انتقلت الى جنوب لبنان: شبكة الاتصالات التي أنشأها حزب الله قد تكون مستمدة من دروس حرب الثمانينات. اكتشف الإيرانيون والعراقيون سريعاً أنّ الاتصال اللاسلكي غير آمنٍ البتة على الخطوط الأمامية للجبهة، فصار المقاتلون يمدون خطوط هاتف سلكية تؤمن الاتصال في المواقع المتقدمة، متجنبة خطر التنصت والتشويش. لا بد من أنّ خبيراً ما في الحرس الثوري قد نظر يوماً الى الخريطة وانتبه الى أنّ مساحة لبنان بأكمله هي أصغر من قاطع على الجبهة الإيرانية ــ العراقية.
التشابه ذاته ينطبق على قتال المشاة ووسائل تصديهم للدروع الإسرائيلية. ايران تمكنت من الصمود في الحرب بفعل براعة وحدات المشاة لديها، لا بفضل «الموجات البشرية»، وهي خرافة كما يعرف كل من درس حرب ايران والعراق. ثبت فشل نموذج «الموجات البشرية» منذ الحرب الكونية الأولى، واختراع الرشاش والمدفعية السريعة الطلقات. ما حدث هو أنّ إيران خاضت أغلب سني المعركة في ظل نقص فادح في سلاح المدرعات. مواجهات الدبابات الكبرى تستنزف الدروع بالمئات، حتى في حالة النصر. وبعد سنة ونيف من الحرب، وجدت ايران أنّها غير قادرة على الاستمرار في زج دروعها في مواجهات هجومية ضخمة، إذ إنّ العراق يشتري الدبابات بالآلاف، فيما هي غير قادرة على استبدال دروعها التي تدمّر. كنتيجة لذلك، ألقى القادة الإيرانيون بعبء العمليات الهجومية على عاتق المشاة، ونُظمت وحدات الحرس الثوري لإتقان تلك المهمّات. «الموجات البشرية»، ولو بملايين الرجال، ليست قادرة على التسلل خلف مواقع العدو الأمامية بعشرات آلاف المقاتلين المقسمين الى وحدات مستقلة، ثم اختراق ثلاثة خطوط دفاعية عراقية، ثم عبور بحيرة، قبل مهاجمة العدو في الضفة الأخرى. هذا فعل وحدات مدرّبة من المشاة، مسلحة جيداً وتقاتل ببراعة، ومستعدة لتحمل أجسم الخسائر.
خرافة «الموجات البشرية» تشبه خرافة «مفاتيح الجنة» (التي يُزعم أنّ الملالي الإيرانيين كانوا يسلمونها للشباب الغر في الحرس الثوري، حتى يعلقوها في صدورهم قبل إطعامهم للجبهة). هناك مقال لباحث إيراني يتناول مذكرات الكتاب الإيرانيين في الغرب. لاحظ الباحث أنّ قصة «مفاتيح الجنة» تتكرر في كل كتاب ورواية، بلا استثناء تقريباً، من مرجان ساترابي الى آذار نفيسي، مع أنّنا لا نملك توثيقاً واحداً جدياً يشير الى هذا الموضوع، ولم يصلنا نموذج واحد من هذه المفاتيح البلاستيكية التي يُفترض أنّها وُزعت بالملايين.

إيران والعرب ونسيان التاريخ

بالمناسبة، هناك خللٌ حقيقي في خطابنا العربي عن ايران. تجد الإعلام الخليجي يتكلم مع ايران بمظلومية دائمة، كأنّما ايران تقهرنا وتدين لنا باعتذارات وتطمينات. هل نسي عرب الخليج التاريخ؟ هل نسينا أنّهم مولوا، منفردين، حرباً مريرة على ايران، كلفت مجتمعها أكثر من مليون قتيل، وكانت الحدث الأكثر مأسوية في تاريخها الحديث؟
يروي حنا الرزوقي في مذكراته (وهو كان من بناة المالية العامة في العراق منذ العهد الملكي حتى الثمانينات)، أنّه سافر، في السنة الأولى للحرب مع ايران، على رأس وفد بعثي رفيع ليطوف دول الخليج بغية جمع «التبرعات». كتب الرزوقي أنّه عاد بعد أيام إلى بغداد وفي حقيبته إيصالات بأكثر من عشرين مليار دولار للبنك المركزي العراقي ــ وهذا يوازي أكثر من ستين مليار دولار بمقاييس اليوم. لو وضعت مسدساً في رأس أمير سعودي فأنت لن تقنعه بأن يكتب شيكاً بستين مليار دولار لحلّ أزمة مصر التنموية مثلاً، لكن هذه الأموال بُذلت رخيصة في سبيل حرب إخوة مُفجعة لم يكن لها أي معنى على الإطلاق، كيفما نظرنا اليها، ولا يمكن أيّ انسان يملك عقلاً أو ضميراً أن يدافع عنها وعن نتائجها.
لغة العداء الدائم والتقسيمات العنصرية في المنطقة هي وصفةٌ أكيدة للانتحار، وهي أشبه ما تكون بالحروب الأهلية. لا العرب سيهيمنون على الإيرانيين، ولا الايرانيون سيحكمون العرب، وهم جيران الى الأبد شاؤوا أم أبوا ــ فالى أين يوصل النزاع؟ هل نتعلم من التاريخ؟ فلنقرأ الدكتور عبد العزيز الدوري لنفهم كيف أنّ ازدهار بغداد ــ في عصرها الذهبي ــ ما كان إلا نتيجة ترابطها مع محيطها. طريق الحرير الذي جعل خيرات العالم وبضائعه تصب كلّها في العراق ما كان إلا «الطريق التاريخي المعروف بطريق خراسان، الذي كان يمر ببغداد فهمدان فقزوين والري ونيسابور ومرو وبخارى وسمرقند، حيث يتشعب الى فرعين: شمالي ويذهب الى خوارزم، وشرقي يصل الى الصين». التاريخ يخبرنا كيف أنّ المدنية كانت تموت في العراق ما إن يُفصل البلد عن خراسان وطرق التجارة الدولية، فيضمحل الاقتصاد، وتضعف الدولة، وتخرب الزراعة، وتُسدّ قنوات الري وتخرب البثوق ــ فيصير العراق بلداً طرفياً منعزلاً، بلا أهمية الا لقبائل الصحراء.
المسألة ليست اقتصادية فحسب، بل هي أيضاً حضارية ومصيرية: إنّ منطقتنا لن تنعم بالاستقلال وبالكرامة وبالازدهار حتى يتعلم العرب والترك والفرس لغة بعضهم بعضاً، ويتزاوجوا من بعض، ويفهموا يقيناً أنّ الفرقة الحضارية التي حلت بينهم في القرن الماضي هي الاستثناء، لا القاعدة. ومن أراد «جداراً من نار»، فليبنه حول نفسه.

من يأخذ حقنا؟

إيران تخوض معركتها وهي مدركةٌ أنّ «المجتمع الدولي» و«الشرعية الدولية» أوهامٌ لا وجود لها في عالم الواقع. لماذا لا نسمع بـ«الشرعية الدولية» في حالة دول كالصين وروسيا والهند؟ لأنّ تلك البلدان هي دولٌ\أمم حقيقية ذات سيادة، وهي مستعدة للدفاع عن سيادتها ومواطنيها، لذا تعاملها الدول الكبرى باحترام وتخوّف. ليس غريباً أن يستعمل الغرب الأمم المتحدة والقانون الدولي أداةً لفرض إرادته على الضعفاء، الغريب هو أن تسمع، بين نخب دول الجنوب، من يتّكئ على هذه المفاهيم ويريد أن يقنعنا بالرضوخ لها ولوصايتها ــ كأنما هناك شرعية أخلاقية أو قانونية لمنظمة، كالأمم المتحدة، تورطت في فرض إبادة جماعية على بلد اسمه العراق، ثم شرّعت احتلاله ونهبه، بدلاً من معاقبة المرتكبين. النخب «الوطنية» التي تدعونا باستمرار للامتثال لـ«الشرعية الدولية» هي ذاتها التي تروج لثقافة «السلام» (مع الليكود) في فلسطين، والتي أوصلت الى ما أوصلت اليه في العقدين الماضيين. هؤلاء يريدون أن يُقنعوا شعبهم بالمعادلة الأميركية التالية: «إذا شرع الإسرائيليون في قتل أطفالكم، فقوموا بفحص سلوككم، أنقدوا ذواتكم، افهموا ما الخطأ الذي تفعلونه والذي يدفع عدوكم لقتل أولادكم، ثم قوّموه». من يرضخ لمعادلات من هذا النوع لا يُقيم كبير وزن لحياة أطفاله. المعادلة في العالم الحقيقي هي كالتالي: «إن حاولتم قتل أولادنا، فإننا سنُبيدكم». هذه هي القاعدة البديهية منذ اكتشف الإنسان القديم الحرب، وإن لم تفكّر بهذه العقلية، فسيدوسك العالم بأجمعه.
المسألة هي، في عُمقها، خيارٌ تاريخي: بين السعي إلى نيل الاستقلال والحفاظ عليه، وتحمل كلفة هذا الطريق مع احتمال الفشل، وبين الخضوع للهيمنة، وتحمل كلفة الخضوع ـــــ واحتمال الفشل، عندها لا يعود مشكلة. هذا الخيار مطروحٌ علينا كما هو مطروحٌ على الإيرانيين، وقد أخذ العرب مسارات مختلفة واقتتلوا على خياراتهم، لكن ما أثبتته التجربة، وقد رأيناه بوضوح في فلسطين والعراق ولبنان، هو أنّ الضعفاء لا ينتزعون حقوقهم من مُغتصبيهم بالقانون. لا يحصل استقلال ولا يحصل تحرير حتى يفهم عدونا، جيداً وملياّ، أنّ «التضحية» و«التنازلات» ليست في الانسحاب من بعض الأراضي العربية المحتلة، أو في «السماح» لنا بأن نبني مستقبلنا بإرادتنا... بل إنّ التضحية الحقيقية والملموسة، المؤلمة والمُفجعة، تكمن في خوض الحرب ضدنا.

* طالب دكتوراه علوم سياسية، جامعة كاليفورنيا ــ بيركلي