ميدان التحرير 3

شظايا الزجاج الأخضر المتبقي من قناني "الكازوزة" التي كانت سلاح البلطجية في هجومهم أمس على المعتصمين أمام مبنى هيئة الاذاعة والتلفزيون المعروفة بإسم ماسبيرو، كانت تطقطق تحت قدمي وانا اتجه الى الخيمة التي جعلوها مقرهم. كانت ليلة امس طويلة، لم تمض الا على ايقاع كرّ وفرَ بينهم وبين البلطجية الذين لم يكفوا عن محاولة فض الإعتصام. بعد الهجوم الاول، الذي حصل عصر امس، دبّ المعتصمون الصوت عبر الرسائل النصية القصيرة والفايسبوك، فتوافد الآلاف ليلا اليهم لحمايتهم من هجمات البلطجية. "جريح واحد" يقول عادل، حين أسأله للتأكد من معلومة تقول ان هناك العديد من الجرحى. ويضيف "ما قدروش علينا لأنهم كانوا قليلين، واحنا كنا بالألاف قدرنا نصدهم. رموا علينا طوب ومولوتوف وكان معاهم مطاوي..عندنا جريح واحد بمطوى (خنجر) بس الحمدلله نقلناه المستشفى وهو كويس". مقابل المبنى الضخم المطل على النيل، والذي يؤوي حوالي الاربعين الف موظف، كان هناك اعتصام آخر: أكثر من خمسين سيارة اسعاف اصطفت امام المبنى هي الأخرى للمطالبة بحقوق المسعفين بالتثبيت في وظائفهم. "كل ما روح مستشفى تقللي/ما منقدرش مفيش تروللي" (نقالة الاسعاف)، تقول احدى اللافتات المثبتة على سيارات الاسعاف ذات اللون البرتقالي الصارخ. إعتصام المسعفين جاء لمصلحة "البلطجي" الصغير الذي القى الثوار القبض عليه امس بعد ان كان يشارك في الهجوم، قادما من جهة حي بولاق الشعبي. احد المعتصمين يقول لي "شفتي؟ همّ بيهاجمونا وبيقتلونا، بس احنا اخذناه المستشفى لأنه كان مصاب. ح نعمل ايه، دول مأجرينو والناس عايزة تاكل عيش من أي داهية. دي إنجازات مبارك". على مدخل ماسبيرو المحاط بجدار من الاسلاك الشائكة، الإجراءات الامنية على أشدها. يصف المعتصمون الهيئة بأنها "بوق النظام"، وانهم هنا من اجل "تطهير الإعلام". يقولون عبارات غاضبة وعامة. هم يعلمون ماذا لا يريدون ولكن ما يريدونه لا زال غائما. أسألهم: ماذا تقصدون بتطهير الإعلام؟ فيردون "تطيرا جذريا". نعم ولكن كيف؟ أي آلية؟ الناطق باسم المعتصمين، علي غنيم، كان يتحدث الى صحافي تلفزيوني بانفعال كبير. هجوم البلطجية كان قد انتهى للتو. أسأله عن مطالبهم:" عايزين تطهير ماسبيرو لأنه ناطق بإسم المجلس العسكري". ولكن كيف في ظل الأوضاع الحالية؟ تغيير وزير الأعلام مثلا؟" يجيب "تغيير الوزير مش ح ينفع، لأنو طالما المجلس العسكري في السلطة فمعنى ذلك ان التلفزيون هو بوق ليهم. لازم المجلس العسكري يتشال، يعطي السلطة للمدنيين، وساعتها.. ما اعرفش: نجيب وزير اعلام تاني ولا اي حاجة..بس المهم ان اي تغيير دلوقت تحت سلطة العسكر مش حينفع، انشالله نجيب افضل وزير بالعالم حيبقى أوحش من اللي قبلو . ورأيي الشخصي؟ مش عايزين وزارة إعلام من أصلو. عايزين دولة مدنية تطلق حرية التعبير وتحرر مسألة إنشاء محطات اذاعية وتلفزيونية من يد الدولة، اعلام السلطة دي بيشوه صورتنا وبيتلاعب بالرأي العام واحنا عايزين تطهير جذري".

مقابل ماسبيرو الواقع على نهر النيل، محطة للنقل البحري المشترك تقوم بنقل الركاب من ضفة الى ضفة أخرى من النهر الخالد. ترسو عبّارة "علي بن ابي طالب" على الرصيف محملّة بأولاد من كل الأعمار. يقول محمد، الزميل الصحفي وهو يشير الى وجوههم التي رسموا عليها بالألوان ملامح حيوانات مختلفة، انهم راجعون لا شك من زيارة" جنينة الحيوانات" على الضفة الأخرى. نحاول ان نستقل العبّارة التالية من المحطة النهرية التي يقول محمد ان سعاد حسني صوّرت فيها فيلم "خللي بالك من زوزو"، لكن العمال قالوا لنا انهم أقفلوا المحطة تخوفاّ من هجمات البلطجية على المعتصمين أمام ماسبيرو على الرصيف المقابل. أحدهم يبرر لنا وهو يضحك" يعني لو واحد هجم علينا ومسكناه، يقوللي انا وطني ما تلمسنيش ازاي اعرفه من البلطجية؟". يبدأ حديث عن جدوى التظاهرات المستمرة. هذا "الخطاب" يبدو معمماً بين من انتخبوا الإخوان المسلمين في الإنتخابات التشريعية الأخيرة التي جاءت بأغلبية لهم في البرلمان:"عايزين بقى نشتغل، لأيمتى وقف الحال؟ مجلس شعب؟ أهو عندنا..ما تسيبونا نشتغل بقى البلد حتروح". يستفز الكلام الزميل الذي شارك بميدان التحرير وشهد احداث (شارع) محمد محمود (التي أدت الى اشتعال مبنى المجمع العلمي وسقط جراءها ضحايا كثيرون بين المدنيين) فيجيبه بانفعال:" مش ده الكلام اللي كنتو تقولوه أيام مبارك؟ اهو نفع النزول للميدان. حرام عليكم. والإنتخابات اللي انت فرحان بيها، مين اللي عملها؟ مش دم الشهدا؟ اصبروا كمان حبة". يحتدم النقاش ويخرج الزميل عن طوره حين يقول لي المراكبي إن الثوار اشعلوا النار في المجمع العلمي. بلحظة تقدح عيناه شررا وهو يصيح بالمراكبي" دول كانوا بيديروا خرطوم الميّة علينا وسايبين المبنى يتحرق علشان الناس تقول ان الثوار حرقوا المبنى. إحنا نحرقوا؟ شفت دلوقت إحنا معتصمين هنا ليه قدام ماسبيرو؟ علشان الناس الي زيّك بتصدق تلفزيون طنطاوي".

"يا شعب تايه ولايص واللقمة كل همّو

لا بينصف المظلوم ولا بيختشي على دمو ".

أقف امام العبارة المكتوبة على أحد الجدران اصورها بانتظار وصول ايمن، سائق التاكسي الذي كان معي السنة الماضية أثناء تغطيتي للثورة، والذي أعدت استئجاره ليطوف بي على من قابلتهم ايامها من محبي الرئيس السابق حسني مبارك.

في الحي الاشبه بشوارع المخيمات الفلسطينية بلبنان، بمنطقة بولاق الشعبية، تستقبلني صاحبة البيت بالأحضان. رجل البيت الذي رفض السنة الماضية ان يقابلني، يستقبلني هذه المرة بوجه بشوش. لا شيء تغّيّر في الحي منذ سنة. لا تزال ازمة قوارير الغاز المنزلي على حالها. لا تزال الطوابير تنتظر. لا تزال الشوارع متسخة، لا تزال مياه المجارير منتشره هنا وهناك ببحيرات صغيرة إثر طوفانها بعد هطول المطر. لا، ليس كما يهطل المطر في بلادنا، بل أقل من ذلك بكثير يكفي لتطوف المجاري هنا.

تحلف الأسرة ذات الاصل الصعيدي، سوهاج تحديدا، ان لا تجيب عن أي سؤال إن لم أمد يدي الى "صينية الفطار"، هنا لا ينفع اي تهرب، تماماً كما في قرانا. افطار بما حضر "أصلك فاجأتينا" تقول الست ام وحيد (60 عاما). جبنة بيضا وطحينة، وبيض من الصعيد وفطير مشلتت. أبو وحيد، وهو ايضا مؤذن الجامع القريب، يحاول التودد بتقليد اللهجة اللبنانية، او التي يظن انها لبنانية على الاصح، كما سمعها في الافلام المصرية القديمة:"جيت الجمعة وجيت السبت، وليش ما جيت يوم الحد؟" ثم يضحك وهو يدعوني للجلوس. زوجته، أم وحيد كانت تبكي السنة الماضية على الرئيس المخلوع، حين زرناها. كانت تنوح لأنه" ما فيناش خير لرؤساءنا"، هي التي كانت تعتبر "تمتعها" بالكهرباء بدل "لمبة الكاز" من إنجازات مبارك، نسألها عن رأيها اليوم، خاصة ان محاكمة مبارك استؤنفت امس، فتقول:"لما عرفنا الحكايات دي كلها عنهم، لأ. خلاص. دول بيقولولك ايه؟ ان سوزان (زوجة مبارك) اشترت قوضة سفرة بستة مليون جنية مرصعة بالذهب من مزادات بلاد بره". يعلق الوالد صلاح:"ده من الجبر بتاعها". فتضيف ام وحيد:" وان ايه؟ مرات (رئيس الوزراء السابق احمد) نظيف عملت عملية تجميل بكام؟ مليون وستمئة الف جنيه. ده هدّ البلد ربنا ما يباركلو باللي خذو . ده طلع بيبيع الغاز لاسرائيل بربع الثمن واحنا يا مصريين، ناخذ انبوبة الغاز (قارورة) بخمسين جنيه! ويا ريت لاقيين". يصل ابنها الكبير وحيد الذي أستدانوا من اجله السنة الماضية ليستطيع إجراء عملية قلب مفتوح. هو اليوم افضل حالاً ولكن امه تشتكي من مواصلته التدخين. يقول الوالد" ده وزير الصحة ما رضيش يدينا دعامة القلب ببلاش، قال لازم نشتريهالو". ولذلك، باع وحيد السيارة السياحية التي اشتراها بنقود جمعها وهو مغترب في قطر ليشتري تلك الدعامة، وهو الآن في حالة إكتئاب لأنه من دون عمل. يقول أبوه، المغرم بفريد الأطرش ولذلك اطلق على ابنه اسم وحيد، الإسم الاشهر للفنان الراحل في افلامه، إن سوزان مبارك" عملت عقد مزوّر علشان تمتلك القصر اللي كانت ساكنة فيه وهوه ملك الدولة، قصر العروبة، بس ما قدرتش، كشفوها". يشارك وحيد في الحديث:" ودلوقت عايزة تسافر. بتقول طالبنها للشهادة بسويسرا بتحقيق غسيل الاموال. عايزة تهرب". أسأل سيدة المنزل عن شعورها لدى عرض التلفزيون وصول مبارك على نقالة الى المحاكمة، فتقول:" ده بيستعطف الناس. إزاي ما بيقدرش يقعد؟ يعني هو ومريض ما بيقعدش بالسرير؟" يضيف زوجها "دي كهانة".

وما رأيهم بطنطاوي؟ يقول الوالد:"المثل بيقول: الشيء بالشيء يذكر. مبارك أخطاؤه واضحة زي الشمس. بس طنطاوي؟ سبحان علّام الغيوب ما نعرفش عنو حاجة. يكفي انه بيحافظ على البلد من اعداء مصر بالخارج وعلى رأسهم اسرائيل واميركا. أصل إسرائيل ولا يمكن تنسى انتصارنا في اكتوبر 73".

يصرخ به فريد، إبنه الثاني من الغرفة المجاورة (لأن الصالون لا يتسع لأكثر من أربعة متجاورين):"تاني يا با؟ ده ضيعنا..حسبي الله ونعم الوكيل. ده مفيش أمن. دول ضربوا العيال في عيونهم . ده أي حد عايز حاجة بياخدها على طول". تقول والدته" مزبوط. إمبارح سرقوا محل الموبايلات ورانا. يا عيني الراجل بيقسّط في ثمن البضاعة لسه. ده بسبب حسني. جوّع الناس. الناس بيضربوا بعضهم بالسنك (سلاح ابيض) علشان قوارير البوتاغاز من الزحمة. وبيقولولك إيه؟ (وزير الاعلام السابق والمسجون) صفوت الشريف جاب وجبة سمك في السجن بثلاثة آلاف جنيه. والناس مش لاقية رزق: اللي بيرمي نفسو من فوق، واللي بيوّلع في نفسو. زي بتاع التحرير من يومين، وكمان كان في واحد تاني ولّع في نفسو في حلوان.". يعيد أبو وحيد على مسامعي قصة جمال عبد الناصر التي يرددها دائما "ده عبدالناصر يوم ما مات كان في رصيدو بالبنك 12 جنيه. عمل إستبدال معاش علشان يجّهز بنتو منى. كان ياخذ من الأغنياء ويدّي للفقراء: كل واحد فدان وجاموسة. الله يرحمه". تقول الوالدة:" دول الضباط عند أحمد نظيف عملوا جنازة للكلب بتاعو لما مات وحضرها لواء!". يضيف فريد "على حساب الحكومة..آه". ثم يقول الوالد:" دول ما ينفعوش يحكموا الناس. لازم خليفة زي النبي يتولانا، علشان كده انتخبنا حرية وعدالة (إخوان مسلمين)".

في منزل الجيران، تلح أسماء سيدة المنزل علينا لشرب الكوكا كولا وهي تمسك القنينة من السدادة كمن ينتظر جوابا حاسما من الضيف لفتحها. يتنطط ابنها الصغير خلفها وهو يحاول جذب انتباه الضيوف على عادة الصغار:"هاتي بوسة يا بت/هاتي حتة يا بت". اضحك في حين تمسك به والدته وتضربه على "قفاه":"خش جوة يا وله". تفتح زجاجة الكولا التي أرسلت احدهم خصيصا ليشتريها. أتذكر فيلم "ام العروسة" حين يطل الصغير برأسه من خلفها وهو يقول لي:"ده انا ح اشربها كلها بس انتي تروحي". يركض ابوه خلفه وهو يضحك.

هنا ايضا خاب أملهم من مبارك. "دي الجرايد نشرت ان حسني لما كان في الكلية، كان بيستعّر (يخجل) بأبوه لما يزوره. آه والله. دول حتى كمان قالوا ان والدته رفعت عليه دعوى نفقة وحكمت لها المحكمة بأربعة جنيه. اتصوري! دول جابوا الوثائق في الجورنال. يخرب بيتو. أتاري كل ده اللي بيحصللو من دعاء الوالدين". أسألها ممازحة، "وماذا عن جمال وعلاء؟"، تحبك معها النكتة وتقول" ده من الوالدين وبس".

في الميدان، لا زالت بضع خيم معتصمة هنا. المطر ينهمر بهدوء وخفة، الأرض موحلة امام المتحف وجامعة الدول العربية. امام الأخيرة، نصبت خيمة ...الثورة السورية. داخلها جو إحتفالي على وقع ما تناقله الناس عن اقتراب المعارك من العاصمة السورية. احدهم يتشح بالعلم ويمسك بدربوكة، في حين كلف صبي صغير بكيل الشتائم في الميكروفون للرئيس السوري. بالقرب منها خيمة أخرى ترفع علم الجزائر وتطالب بالإفراج عن معتقل هو، حسب البيان الموزع"خالد سعيد الجزائر".

من شرفة "شبه الفندق" الذي أغادره بعد قليل، ألقي نظرة اخيرة على ما يجري في الميدان الأشهر. الورشة في وسط الميدان استأنفت اعمالها في مشروع تطوير فندق فخم. بضع خيم لا تزال منصوبة لبعض المعتصمين خاصة من اهالي الشهداء. اسمع صوت هتافات تقترب. نفّذ إتحاد شباب الثورة وحركة 6 إبريل خطتهم: ها هم يطوفون بمسيرة، واحدة من عشرات المسيرات التي تعمّ البلاد والتي لن تكف، حسب ما قالوا، حتى تحقيق كامل المطالب. صوتهم يتناهي اليّ هنا وهم يهتفون :"شالوا حسني حطو حسين/داهية تاخد الأتنين".

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/30/2012 7:20:00 PM

دي مش كتابة خالص ، دي مزيكا ، والله العظيم مزيكا يا اخواتي . إعزفي كمان ياضحى .. إعزفي وأطربينا :) ... جمال الاريتري .. صنعاء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/30/2012 3:21:42 PM

العودة إلى الشخوص ذاتها الّتي كانت عالقة في الوهم تحت وطأة "التربية" الحكوميّة على مدى عقود لاستكشاف ما فعله عام من الزمن بوعيها هي ضربة معلّم يا ضحى. أمثلة صغيرة منفردة قد تشي بما هو أوسع. ليتك تلازمين ميادينها وتجولين في أطرافها مدّة أطول، فما هو بحاجة إلى إعمال النظر والفكر كثير كثير. هيفاء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/30/2012 9:17:21 PM

وهل تعتقدين ذلك ياهيفاء ؟! هل هو الوعي الذي أعمل فعله في تغيير الأقوال أم أنّه انقشاع الخوف عن قلوبهم ,الخوف سيّدتي وإن تبدّى بعضه وعيا وليس تقليلا من أهميّة ماحدث مطلقا ولكنّ الوعي يلزمه الكثير جدّا أكثر من رحيل مبارك....

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم