الأسئلة التي يجب أن نواجه بها أنفسنا، هي الأسئلة التي تلاحقنا في فوضى الدولة – المسخ القائمة. وهي الأسئلة التي تعيدنا الى النقطة الأساس: كيف للمواطن أن يثق بمؤسسات الدولة؟مصدر القلق ليس بأمر جديد. لكن ضغط السؤال يعود الى فصول مسرحية توقيف المسرحي زياد عيتاني، والتحقيق معه بشبهة التعامل مع العدو، والحديث عن إطلاق سراحه خلال ساعات، بسبب انتفاء الجرم.

الشرح الطويل لا ينفع في هذه اللحظات، بل يجب اختصار المسألة بمجموعة ملاحظات:
أولاً: إن الشك القديم – الجديد بعمل الأجهزة الأمنية اللبنانية هو شك في مكانه، ولا يجوز لأي مواطن أن يمنح الثقة إلا على كل عمل بعمل.
ثانياً: إن طريقة بناء الأجهزة الأمنية، وفق الاعتبارات الطائفية والسياسية ومصالح الحاكم في لبنان، تقودنا في كل وقت الى أجهزة تعمل وفق أجندات لا تتصل حكماً بالمصلحة الوطنية.
ثالثاً: إن خضوع السلطة القضائية بشكل مطلق للسلطة السياسية، وخضوع الأجهزة الأمنية بشكل مطلق للسلطة السياسية، يقود الى نتيجة واحدة، وهي أنه لا وجود لمرجعية مستقلة بإمكان الناس الوثوق بها، حتى يمكن تصديق رواية أو التثبت من دليل إدانة أو براءة.
وفي حالة زياد عيتاني، سيكون الوضع أكثر تعقيداً، لأن إخضاع مسائل تتعلق بملف التعامل مع العدو، لحسابات سياسية وانتخابية، وصراعات أجهزة أمنية، يعني ببساطة أننا نفتح الباب أمام العدو، ليستخدم هذه الفوضى، فينجح في طمأنة من يتم تجنيدهم بأن فرصتهم في الإفلات كبيرة. وسبق للعدو أن استفاد من سياسة العفو المقنّعة، التي ترجمت عقوبات سخيفة بحق من أدين بالتعامل مع العدو. وعندها يكون العقد قد اكتمل، فلا عقوبات ردعية، مقابل إدانات مشكوك فيها، والبعض يستخدم تهمة التعامل مع العدو لأجل الانتقام من هذا أو ذاك، كل هذا يؤدي الى نتيجة واحدة: توفير المناخ السياسي، ثم توفير أدوات الاحتيال لأجل توسيع نشاط العدو الاستخباري في لبنان، حيث يوجد أكبر أعداء إسرائيل.

من الإنصاف الإشادة
بعمل فرع المعلومات وخصوصاً في مواجهة
شبكات التجسّس للعدوّ


لكن، ماذا عن واجبنا نحن الصحافيين؟
في «الاخبار»، نحن الذين نحمل سيف مقاومة العدو وعملائه. ونحن الذين نلاحق كل متعامل أو متعاون أو مطبّع مع العدو وبرامجه، نجد أنفسنا أمام درس جديد. هو الدرس الذي يقول لنا بوجوب الاستغناء كلياً عن هوس السبق الصحافي في حالات كهذه، وأن نتحفّظ كثيراً، وأن ندقق في كل معلومة بمعزل عن مصدرها، ومدى دقته أو صدقه أو حِرَفِيّته. وهو درس، قاسٍ، له تبعاته المهنية وأكثر. لكنه درس لا يمنعنا من الانتظار، والتدقيق في كل العناصر الجديدة التي أضيفت على ملف المسرحي عيتاني.
اليوم، نشهد محاولة يقودها فريق من سياسيي «مشروع 14 آذار» وإعلامييه وناشطيه لاتهام «الأخبار» بتولّي تشويه سمعة زياد عيتاني، ونجد في المقابل حملة احتضان للمسرحي من قبل جهات لم تكن تعترف به إنساناً أو صحافياً أو سياسياً، بل حتى تنبذه على الصعيد الاجتماعي. وما يهمنا في هذا المجال، أننا لن نتخلى عن دورنا في ملاحقة كل متعامل أو مطبّع مع العدو، سياسياً أو أمنياً أو ثقافياً، أو حتى من باب المنظمات غير الحكومية المموّلة من الأميركيين وعواصم غربية تدعم العدو. ولن نتوقف عن مطاردة هؤلاء أينما حلّوا، وبمعزل عن أي غطاء لهم أو دعم من قبل جهات رسمية في لبنان. ومهمتنا العمل بحِرَفية ومهنية من أجل تحصين موقفنا السياسي والأخلاقي في وجه خونة وطنهم، مع التأكيد على أن «براءة» عيتاني، لا يمكن تجييرها لهم، ولا تنفع في مسح العار عن جباه هؤلاء.
بالمناسبة، ولمن يهتم بالتحامل على الزميل رضوان مرتضى، يمكننا أن نخبره، أنه، بحسب التحقيقات الجارية مع المقدم سوزان الحاج، والقرصان الإلكتروني، فإن رضوان كان هدفاً لهما، وكان يراد الإيقاع به بتهمة التعامل مع العدو أيضاً... وكلنا أمل، ألّا يجري اختصار محاضر التحقيق أو تنقيحها!
أما بشأن عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، فإن المهمة ملقاة الآن على عاتق الرئيس ميشال عون، الذي يعرف، أكثر من جميع المسؤولين في البلاد، أن مدخل الإصلاح الحقيقي يكون بإعادة الاعتبار للسلطة القضائية المستقلة فعلاً، لا شكلاً. وإذا كان أنصار التيار الوطني الحر يتصرفون الآن على أن ما يجري هدفه ضرب سمعة جهاز أمن الدولة (المحسوب على الرئيس عون) وضرب صدقية النيابة العامة العسكرية (المحسوبة أيضاً على الرئيس عون)، فعلى هؤلاء عدم الذهاب بعيداً، لأن الوزير المسؤول عن كل النيابات العامة هو محسوب أيضاً على الرئيس عون. وصار بالإمكان إظهار الشك بأن الوزير سليم جريصاتي يتصرف بحيادية تامة، كما يفرض عليه القانون بصفته وزيراً للعدل.
وبما أن المعطيات المجمعة عن التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، تنسف كلياً نتائج التحقيقات التي جرت في جهاز أمن الدولة، وهو أمر سيكون له تداعياته الكبيرة على عمل الجهازين، فإن الأفضل لنا جميعاً انتظار بقية فصول هذه الرواية حتى يكون الموقف أكثر وضوحاً.
لكن، ومن باب الإنصاف، تجدر الإشارة بإيجابية الى عمل فرع المعلومات، الذي يظهر قدرة على تجاوز الأزمات السياسية التي تحيط بفريقه السياسي الأصلي، وأن يقوم بإنجازات كبيرة. ومنذ تولي رئيسه الحالي، خالد حمود، المسؤولية المباشرة عنه، يمكن الالتفات الى خطوات كثيرة، كعملية ملاحقة الضباط الفاسدين، سواء داخل الفرع أو في القطعات الأخرى في الأمن الداخلي (حالياً، ثمة تسعة ضباط موقوفون مسلكياً وعدلياً بجرائم مختلفة)، وإن كان هذا العمل لا يزال بحاجة إلى الكثير لتنقية المديرية من الفاسدين. ويُسجّل لحمود أنه ألغى العمل بكل بطاقات «تسهيل المرور» التي توزّع على المخبرين والعسس والزعران، وتساعد كثيرين منهم على الإفلات من العقاب والاستمرار في زعرانتهم. وثمة عمل خاص ودؤوب ومثابرة في مكافحة الجريمة، وهو أمر يوافق عليه الجميع. لكن الأهم أن هناك تحدّياً له أثمانه الكبيرة، يتصل بملف مكافحة التجسس مع العدو. وسيكون جَحوداً وأعمى من لا يرى العمل الكبير الذي قام به الفرع في كشف خيوط جريمة العدو بتفجير سيارة أحد كوادر «حماس» في صيدا في الرابع عشر من كانون الثاني الماضي. وهو إنجاز سوف يضع الفرع على المهداف الإسرائيلي، لأن العدو سيظل يتعامل مع كل خطوة أمنية أو سياسية تصدر ضده من لبنان، على أنه في سياق تبنّي الدولة للمقاومة.