اعتادت إيطاليا اللحظات الحاسمة في السياسة، كما اعتادت أوروبا «الاتحادية» سرعة التغييرات التي يُمكن هذا البلدَ أن يشهدها. في لحظة سياسية، كانت القارة تعتبرها حساسة نظراً إلى أنّ الاتحاد الأوروبي كان يعيش «في ظلال تداعيات البريكست» البريطاني، أصرّ رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينزي، في نهاية 2016، على إجراء استفتاء شعبي على تعديلات دستورية كان يقترحها، مصوّراً الأمر كأنّه استفتاء على شخصه.
خسر رينزي، فاستقال، فيما اهتزّ عرش «الاشتراكيين الديموقراطيين» في مجمل القارة خشية حصول موجة سياسية مضادة، من شأنها إنهاء عهد الصعود إلى الحكم، المتواصل بشكل رئيسي منذ بداية التسعينيات. خسارة رينزي لم تكن تعني غير ذلك، وبخاصة أنّ جيريمي كوربن في بريطانيا، وجان لوك ميلونشون في فرنسا، كانا برغم تبايناتهما، يوسّعان طيف «اليسار الجذري» فوق القارة، بعد مدّة قصيرة على الضربة الموجعة التي وجهتها المؤسسات الأوروبية والجهات المانحة لفئة كبيرة من اليونانيين، حين نجحوا في «ترويض» راديكالية «سيريزا» وإخراج وزير المال يانيس فاروفاكيس.
برغم الوقت الفاصل بين الحدثين، فإنّ الإعلام الغربي المهيمن، نجح في المدّة الأخيرة في إدراج الاستحقاق الإيطالي الحالي، في خانتين: متابعة ماذا سيجري مع رينزي، لأنّ من شأن ذلك التأثير أكثر على المجريات الأوروبية؛ اختزال الانتخابات في أنّ «المخاوف الاقتصادية والاجتماعية إزاء أزمة المهاجرين، تقود الإيطاليين أكثر نحو اليمين»، مبرراً ذلك. أيضاً، كانت الأحاديث تتابع عن «عودة برلوسكوني».
صحيفة مثل «فايننشل تايمز» (هي أشبه بكونها صحيفة لرأس المال)، رأت أنّ الحملة الانتخابية «هيمنت عليها خيبة الأمل من الانتعاش الاقتصادي (البطيء ــ راجع الكادر أدناه) والقلق حيال أزمة الهجرة، وهي اهتمامات غذّت المعارضة الشعبوية وزادت المخاوف من وقوع توترات كبيرة مع الاتحاد الأوروبي». وقالت الصحيفة إنّ رئيس الوزراء باولو جنتيلوني «يُواجه معركةً صعبةً (للبقاء على) رأس السلطة»، مضيفةً كذلك أنّه «إذا تعثّر (تحالف برلوسكوني)، ولم يفُز بغالبية صريحة، فإنّ إيطاليا ستعرِفُ برلماناً معلّقاً، ما سيفتح أمام مفاوضات طويلة وفوضوية بغية تشكيل تحالف حكومي موسّع»، وهذا على الرغم من أنّ التقرير المنشور أمس، أشار إلى «الانتقادات التي تُحذِّرُ من أنّ مخطط برلوسكوني، يُخاطر في جرِّ عجزٍ أكبر من الحالي وبزيادة الدين العام الذي يُمثِّلُ أكثر من 130% من الناتج الإجمالي المحلي». وبينما نقلت وكالة «فرانس برس» عن مصادر أوروبية أمس، أنّه إذا لم يتمكن أي من برلوسكوني أو رينزي، من إحراز غالبية، فإنّ أطرافاً أوروبية عدة ستسعى الى تشكيل ائتلاف كبير بين الرجلين، «خشية الأسوأ وخشية صعود المناهضين لأوروبا». جدير بالذكر أنّ فاروفاكيس نفسه، أبدى في تصريح أخير له اعتقاده بأنّ «اليمين المتطرف يجد أمامه حالياً وضعاً اقتصادياً مثالياً»، في إشارة إلى النجاحات الإعلامية التي كان يحققها زعيم «رابطة الشمال» (المتحالف مع برلوسكوني) ماتيو سالفيني، الذي غالباً ما يقول إنّ العملة الأوروبية هي «عملة ألمانيا» في نهاية المطاف نظراً إلى ثقل برلين، وأنّ الدخول فيها مثّل خطأً بالنسبة الى الاقتصاد الإيطالي.
من جهة أخرىن تناقض وجهة «فايننشل تايمز»، اعتبرت صحيفة «لومانيتيه»، اليسارية الفرنسية، أنّ الانتخابات تجرى بين ثلاثة تشكيلات: «ائتلاف يسار الوسط (الحاكم بواسطة رئيس الوزراء) بقيادة ماتيو رينزي؛ ائتلاف اليمين واليمين المتطرف بقيادة سيلفيو برلوسكوني؛ ديماغوجيو حركة خمس نجوم. بينما تشارك أيضاً لائحتان لليسار» الذي لا يمكن احتساب رينزي وفريقه ضمنه.

برلوسكوني ــ سالفيني: «عودة إلى المستقبل»

في أقصى يمين المشهد الإيطالي، يجتمع كل من سيلفيو برلوسكوني (81 عاماً) الذي يتزعّم «فورتسا إيتاليا» و«رابطة الشمال» بزعامة سالفيني (44 عاماً)، في محاولة منهما لاكتساح هذا الاستحقاق، ويوجد ضمن فريقهم من يسمون «إخوة إيطاليا». إلا أنّ هذا التحالف «يحمل بذوراً خلافية، وبخاصة أن كلاً من حزب برلوسكوني ورابطة الشمال، يطمح إلى الحصول على أعلى عدد ممكن من الأصوات، إذ في حال حصول هذا الفريق على الأغلبية البرلمانية، فإنّ الحزب المتقدّم يمكنه أن يأمل بأن يُكلِّف رئيس الجمهورية أحد أعضائه بتشكيل الحكومة»، يقول أستاذ العلوم السياسية مارك لازار.

يسعى أوروبيون إلى
تحالف بين رينزي وبرلوسكوني إذا لم يكن هناك غالبية واضحة


برلوسكوني الذي يحوز وحده مساحة ضخمة من التغطيات، تقول عنه الصحافية كاميليا نوفو، نقلاً «عمّن عرفوه في السنوات الأخيرة»، إنّ «رغبة دفينة بالانتقام تحرّكه». وتنقل نوفو عن كاتب سيرته الذاتية آلان فريدمان، الحديث الآتي: «حين استفسرت منه عن الأسباب التي تمنعه عن التلذذ بتقاعده وبماله، أجابني بأنّه لن يُغادر قبل تحقيق نصر نهائي. إنّها مسألة انتقام، حتى إنّها مسألة الأنا. لديه شعور بأنّه في عام 2011 كان ضحية انقلاب، (وهو الآن) يريد العودة ليقول أمام الجميع إنني لا أزال هنا». في هذا الصدد، للصحافي أوليفييه توسيري، عبارة جميلة، تقول: «لو كانت السياسة الإيطالية فيلماً، لأخذَت عنوان: العودة نحو المستقبل، ولكان سيلفيو برلوسكوني، ممثّلاً رئيساً فيه».

ابتذال «الهجرة»

«رابطة الشمال» المتطرفة طرحت شعارها: «الإيطاليون أولاً»، فيما وصف حليفها برلوسكوني، الذي لم يحِد البتة عن منهجه الليبرالي المتغوِّل، الهجرة بأنّها «قنبلة اجتماعية» جاهزة للانفجار. هذه الشعارات تأخذ المشهد نحو «اليمين»، إذ إنّها نادراً ما تلعب لمصلحة «الاشتراكيين الديموقراطيين (رينزي نفسه، لم يجد وسيلةً للمواجهة سوى الإعلان: «أقولها لناخبي اليسار الراديكالي وكذلك للمعتدلين: وحده التصويت للحزب الديموقراطي (حزبه) يضمن عدم ترك البلاد بأيدي ماتيو سالفيني»).
«مسألة الهجرة باتت ركيزةً في هذه الانتخابات، (متخطيةً) اهتمامات الايطاليين بما يخصّ العمل والضرائب، واليمين الوسط وحركة خمس نجوم، يمارسون عن عمد اللغط بين الهجرة الشرعية، وتلك غير الشرعية، وموجات الهجرة التي بدأت تتدفق منذ عام 2013 إلى الشواطئ الإيطالية، وهم يلعبون بذلك على مشاعر القلق والجزع التي تتنامى في ظلّ انحدار ديموغرافي رهيب، يعرفه هذا البلد (خسرت إيطاليا مئة ألف ساكن عام 2017)»، يشير مارك لازار. استطراداً، وبسبب الحديث عن «أزمة الهجرة»، قد يبدو مفيداً اغتنام الفرصة للتذكير بقصيدة أراد بها الأديب الإيطالي آري ديلوكا (وهو يساري)، تكريم 800 مهاجر غداة غرقهم في البحر في نيسان عام 2015. تقول: «ليتبارك ملح بحرنا؛ لتتبارك أعماقه المحتضنة للمراكب المزدحمة؛ (مراكب) بلا دروب أبحرت فوق أمواجك... بحرنا الذي ليس في السماوات؛ لونك قمحي في الفجر؛ وبلون كروم العنب عند الغسق؛ زرعناك بالغرقى أكثر مما فعلته أزمنة الأعاصير».

موعد لـ«اليسار»

في بلاد تكاد تكون الوحيدة في أوروبا، التي اقترب فيها «الشيوعيون» مراراً من «غزو السلطة»، حتى منتصف السبعينيات، يُعاني اليساريون الذي لم يُجالسوا «موائد الليبرالية» كما فعل «سيريزا» اليوناني، أو كما غالباً ما يفعل «الاشتراكيون الديموقراطيون» أمثال ماتيو رينزي، من أزمة تتواصل فصولها منذ النتائج السيّئة التي سجّلها تحالف اليسار (Arcobaleno ــ قوس قزح) عام 2008 وخروجهم من البرلمان.
في «لومانيتيه» الفرنسية، يكتب غاييل دي سانتيس، أنّ «اليسار الذي لم يزر حلبات النيوليبرالية، يستعيد الأمل في إيطاليا... ففي هذا العام، استعاد المناضلون ضد اللبرلة، دروب الوحدة، تحت شعار: (تجمّع) السلطة للشعب (Potere al Popolo)». وقد وجد هذا التجمّع دعماً أوروبياً، لعلّ أبرزه جاء من السياسي الفرنسي جان لوك ميلونشون، الذي يقول القريب منه غابرييل آمار: «نحن ننفخ على الجمر في أوروبا، ولهذا ندعم السلطة للشعب»، علماً بأنّ هذا التصريح أتى «للدفاع» عن زيارة ميلونشون لمدينة نابولي منتصف الشهر الماضي، دعماً لهذا التجمّع.
ويضم هذا التجمّع حزب «إعادة التأسيس الشيوعي» (Rifondazione comunista) الذي تأسس عقب حل الحزب الشيوعي نفسه في بداية التسعينيات، ويقول سكرتيره ماوريتزيو آسيربو: «عملنا على جمع تشكيلات اليسار الراديكالي خارج إطار وَسَط اليسار الذي يُمثِّله الحزب الديموقراطي»، مضيفاً أنّ تجربة «السلطة للشعب» تعيد الحياة إلى «عدد من المواطنين والمناضلين».
إلى جانب «السلطة للشعب»، ثمة تشكيل سياسي آخر «أحرار ومتساوون»، لكنّها حاضرة في البرلمان الحالي بفعل تحالفها مع «الحزب الديموقراطي» عام 2013، قبل أن تتحرك أكثر يساراً في الوقت الحالي، وهي تضم «بالأساس شخصيات شيوعية» كانت قد انضمت إلى «الديموقراطي» إثر تشكّله في عام 2007، كما تضمّ «حركة التقدميين».




الاقتصاد محورٌ رئيس

يُعدُّ الاقتصاد أحد أهم محاور الصراع في الانتخابات الإيطالية الحالية. ففي حين عاد هذا الاقتصاد إلى النمو المتباطئ، إلا أنّه لا شعور على المستوى العام بذلك. وبعيداً عن وعود الأحزاب بإعادة الحياة إلى الاقتصاد، وقطاع الصناعة، وسوق العمل، إلى ما كانوا عليه قبل 2008، تشير الإحصاءات إلى أن ذلك لن يحصل قبل 5 أو 6 أعوام. أيضاً، يزيد القطاع المصرفي الإيطالي صعوبة المهمة، إذ بات في موقع صعب بعد انهيار أربعة مصارف وإنقاذ الحكومة خامساً، وتصفية مصرفين إقليميين. وكان هذا القطاع قد نجح في تجنب التبعات المباشرة لأزمة 2008، لكن استمرار الركود الاقتصادي نال منه. واليوم، بات على الفائزين بالانتخابات معالجة قطاع مصرفي مأزوم يحمل حوالى 220.9 مليار دولار من القروض المعلّقة. وبات الدين العام الإيطالي الثاني في أوروبا بعد اليونان، إذ وصل إلى حوالى 132% من الناتج المحلي الإجمالي. أما في سوق العمل، فقد أجرى «الحزب الديموقراطي» بخصوصه «إصلاحات» عام 2014 بغية إنتاج الوظائف (مليون وظيفة، فيما يظهر أنّ غالبيتها بدوام جزئي). أما البطالة، فهي في ارتفاع مستمر حتى وصلت في الجنوب الإيطالي إلى حوالى 29%.
(الأخبار)





بما يعكس «الخشية الأوروبية»، ففي تقرير نشره «كارنيغي» الشهر الماضي، يعتبر الباحثان ريشارد يونغز وسارة مانيه، أنّ «ثمة اتفاقاً واسعاً على أنّ الديموقراطيّة الليبراليّة صارت هشّة في معاقلها الأوروبيّة»، مشيرين إلى أنّ «بعض بيانات استطلاع للرأي تلفت إلى أنّ الأوروبيّين يزدادون تردداً في ما يتعلّق بالقيم الديموقراطيّة الأساسيّة، ما يدفع بعض الباحثين حتى إلى الخشية من وقوع تفكّك ديموقراطيّ وشيك، إذ من الواضح أنّ النزعات غير الليبراليّة بصدد التنامي... كما يعبّر محللون سياسيون عن قلقهم إزاء صعود أحزاب شعبويّة في العديد من الدول الأوروبيّة»، وهذا على ما يبدو ما حصل في إيطاليا أمس.