رغم أن حماوة الانتخابات النيابية فرضت نفسها على المشهد السياسي، إلا أن الأوضاع الحدودية مع إسرائيل وتداعيات المفاوضات الأميركية حول النزاع البحري، واستمرار المخاوف الأمنية من أي اعتداء إسرائيلي على الحدود البرية، لا يزال يأخذ حيّزاً مهماً في النقاشات الأمنية والسياسية.
من الواضح أن زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لليرزة، في هذا التوقيت الإقليمي، تفترض قراءة معمَّقة للاحتمالات التي يضعها الأمنيون والسياسيون المعنيون، في مقاربة الواقع الإقليمي، سواء عبر البوابة السورية أو عبر التطورات الأخيرة في ملف الحدود البرية والبحرية. والسؤال المطروح على طاولة النقاش: هل يمكن أن تُقدم إسرائيل على الحرب، وما هي الاحتمالات التي يفترض أخذها في الاعتبار، في قراءة مستقبل الوضع الحدودي وإمكان حصول أحداث غير محسوبة تؤدي إلى نشوب حرب، كمثل الأسئلة عن إسقاط الطائرة الإسرائيلية F 16 واحتمال سقوط الطيارين خارج حدود فلسطين؟
لا شك في أن النقاشات السياسية والأمنية الجدية، تفتح الباب أمام سيناريوهات عدة وتساؤلات عن مصلحة إسرائيل الحالية في شنّ حرب على لبنان، خصوصاً أن أمامها اليوم تحديات أمنية داخلية واقتصادية تفوق رغبتها في إدخال نفسها في حرب جديدة. هناك أمثلة بسيطة تعبّر أحياناً عن واقع سياسي وأمني لافت: بناء إسرائيل للجدار يعني أنها تحاول عزل نفسها عن أي مجريات حربية وتخفيف وطأة التوتر على جبهتها الشمالية؛ بناء منصات النفط والغاز البحرية التي تكلفها مئات ملايين الدولارات، وإمكان تعرضها لصواريخ لبنانية، وغيرها من الأمثلة الموضوعة على طاولة النقاش حول احتمالات الحرب، رغم أن ثمة وعياً لبنانياً رسمياً، أن أي قرار حرب شامل قد تتخذه إسرائيل، لأسباب تتعلق بالواقع السوري أو الإيراني وموقع حزب الله في المعادلة الإقليمية، قد لا يتوقف عند هذه التفاصيل.
إلى جانب النقاشات، برزت التأكيدات اللبنانية الرسمية للاستعداد الكامل للرد على أي اعتداء إسرائيلي، على أنها تأخذ في الاعتبار كل الاحتمالات لأي اعتداء بري أو بحري، مع تغليب الانطباع بأن الوضع البري مقلق أكثر، نظراً إلى أن أي نزاع بحري لا يزال محكوماً بوجود أطراف دوليين متورطين في طريقة أو بأخرى بالحفاظ على الأمن في البحر، لمصالح نفطية وعسكرية.
فبناء الجدار الإسرائيلي يحمل في طياته ألغاماً تتعلق بالنقاط المتنازع عليها، ما يعني أن الخطر لا يزال قائماً إذا ما حاولت إسرائيل الاقتراب في عملية البناء من هذه النقاط. وهي حتى الآن لا تزال تستكمل عملية البناء في المناطق غير المتنازع عليها. وقد بنت حتى الآن مسافة 650 متراً، في حين أن طول الجدار المتوقع 12 كلم، نصفه في القطاع الشرقي ونصفه في القطاع الغربي.

في حال لجوئه إلى التحكيم، سيكون لبنان مضطراً إلى القبول بنتيجته أياً كانت

لكن سباق الوقت يكمن في هذا الحد الفاصل بين استكمال البناء ــ والاحتمال أن يستغرق نحو ستة أشهر ــ والاقتراب من النقاط التي تشكل موضع نزاع وتحفظ لبناني، وبين المفاوضات التي تدور حول الحدود البحرية وضرورة إسراع لبنان في معالجتها. لأن الحكومة اتخذت قراراً وأعطت توجيهاتها إلى الجيش اللبناني بالردّ على أي اعتداء على الأراضي اللبنانية. وأي محاولة إسرائيلية ستقابل برد عسكري. علماً أن المفاوضات التي جرت حتى الآن، الدولية منها والأميركية، لا تزال تنقل أجواءً إسرائيلية غير تصعيدية، ما يستوجب تسريعاً لعملية التحديد البحرية، للإحاطة الشاملة بملف الحدود وعدم ترك أي ثغرة تنفذ منها إسرائيل لإثارة التوتر مع لبنان.
ثمة عنوان عريض يجري التعامل معه أميركياً وإسرائيلياً في ملف الحدود البحرية، وكأنه يراد له أن يغطي النزاع البري القائم حالياً حول النقاط العالقة بين لبنان وإسرائيل، والتي يبلغ عددها 13 نقطة، ويتحفظ عليها لبنان (يصرّ المعنيون مباشرة بالترسيم على عدد هذه النقاط). أبعد من البنود التقنية المهمة التي يجري التفاوض حولها، ثمة محاولة لرسم مسار مستقبل التفاوض حول النزاع البري والبحري، في ضوء النقاشات الأخيرة.
فأمام أي خلاف حدودي مساران: إما التفاوض المباشر، أو اللجوء إلى وسيط. في حالة لبنان مع إسرائيل لا مجال للتفاوض، والوسيط الذي يلعب دوره حالياً الموفدون الأميركيون، أثار الحذر اللبناني على كافة المستويات، لكونه طرح نقاطاً للحل عكست انحيازاً إلى إسرائيل، وهو الأمر الذي أنتج رفضاً لبنانياً جامعاً تبلغه الأميركيون رسمياً.
جاء طرح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول التحكيم الدولي، كمنطلق قانوني يفترض معه إيجاد حل برعاية دولية، يمكن خلالها الانتهاء من هذا الخلاف الحدودي والمباشرة بالتنقيب عن النفط. وبصرف النظر عن قانونية الاقتراح والهيئات التي يفترض أن تقوم به وانتساب لبنان وإسرائيل إليها، يرى رافضو ما طرحه عون سلبيتين فيه: أولاً، أن لبنان في حال لجوئه إلى هذا التحكيم، مضطر إلى القبول بنتيجته أياً كانت، وفي هذا الأمر مخاطر حدودية قد لا تكون لمصلحة لبنان. ثانياً، هناك مخاوف من تأثيرات إسرائيلية دولية في هذا المجال، لأن لإسرائيل قدرة أكثر من لبنان على لعب دور فاعل في محافل دولية تساندها في معركتها الحدودية.
المسار الرابع يتمثل باقتراح الرئيس نبيه بري، أي الترسيم البحري على غرار الترسيم البري الذي قامت به الأمم المتحدة عبر القوات الدولية. في هذا الاقتراح، تكمن العلاقة المباشرة بين لبنان والأمم المتحدة من جهة، والأمم المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية. والترسيم الذي حصل براً مع سريان تطبيق 1701، أثبت فاعليته، رغم بقاء نقاط متحفظ عليها. لكن القرار 1701 أعطى للقوات الدولية صلاحية الإشراف على ترسيم الخط الأزرق الذي بدأ العمل به بعد عام 2000، أي إنه حصر مهمتها بالحدود البرية، في حين أن القوات الدولية لم تُعطَ هذه الصلاحية بحراً، رغم مهمتها الدولية للإشراف على تنفيذ القرار 1701 لجهة ضبط الحدود البحرية وتهريب السلاح، ما يعني أنه يستوجب تفويضاً جديداً لها للإشراف على ترسيم خط بحري. إلا أن هذا الاقتراح يبدو الأكثر قابلية للحياة والترجمة العملية، وهو يلاقي استحسان أكثر من جهة معنية أمنية وسياسية، تؤيد الضغط في اتجاه ترجمته عملياً، لكونه يسرّع الترسيم، وفي الوقت نفسه يؤمن تغطية الأمم المتحدة، حيث للبنان دول صديقة تقف إلى جانبه. وقد يكون التصعيد اللبناني مطلوباً في هذا المجال، وحصره في اقتراح واحد عملي، سبيلاً إلى الاستعانة بالمحافل الدولية والدول الأوروبية المعنية لتوسيع مهمة اليونيفيل البحرية باتجاه الإشراف على الترسيم، والضغط كي تقبل إسرائيل بها. وبذلك يمكن لبنان تسريع خطوات التنقيب عن النفط، خصوصاً في ظل رعاية دولية عبر الشركات المعنية، تزامناً مع ترسيم الحدود البحرية.