ضربت القوات الأميركية طوقاً حول مدينة الرقة، أبرز معاقل «داعش» في محافظة الرقة بعد انتهاء المعارك، ومنعت حينها كل وسائل الإعلام أو المدنيين من الدخول إلى المدينة. استمر المنع لأكثر من شهر، ليسمح بعدها للمراسلين والصحفيين بالدخول، بعدما أزال الأميركيون كل محتويات مقارّ التنظيم، ولم تترك غير الجدران التي صورتها الكاميرات.
اتبعت الولايات المتحدة الإجراء ذاته في مدينة الشدادي، أهم معاقل التنظيم في الحسكة، بعد انتهاء المعارك فيها، والأمر نفسه في مدينة الطبقة، وبقية المناطق التي كانت تشكل مركز ثقل حقيقي للتنظيم. منعت المدنيين من العودة إلى مدينة الطبقة بعد أن عقدت صفقة مع قيادة «داعش»، ضمنت بموجبها خروجهم من المدينة والانسحاب إلى مدينة الرقة مع عوائلهم كخطوة أولى. وضربت طوقاً أمنياً حول المدينة وأخرجت جميع الوثائق التي خلّفها التنظيم.

تصفية الشهود

دارت مفاوضات بين الأميركيين ومسلحي التنظيم، استمرت لأيام، بوساطة عشائرية كان يديرها وجهاء من فخذ الناصر في عشيرة الولدة، أكبر عشائر الرقة وشيوخها في الطبقة وقراها. وسيطرت «قوات سوريا الديموقراطية» على المدينة، وبعد أشهر عاد المدنيون إلى بيوتهم، وما لبثت أن عادت الحياة إلى طبيعتها، وصارت الطبقة مركزاً تجارياً كبيراً ومقصداً لكل أبناء القرى المجاورة. كان المحامي إبراهيم السلامة، أبرز الأشخاص الذين أداروا عملية التفاوض من أجل انسحاب «داعش» من الطبقة أولاً، ثم من الرقة، وتربطه مصاهرة بأحد أبرز أمراء التنظيم في الطبقة، وقد تعرض لمحاولة اغتيال بعبوة أثناء إدارته عملية التفاوض، ونجا برغم خسارة إحدى عينيه وبتر ساقه. تابع حياته بعد أشهر من خروج مسلحي التنظيم، إلى أن دهم أربعة أشخاص منزله منذ أيام، بينما كانت تنتظرهم في الخارج سيارة مع سائقها، ووفق ما أورد شهود من مدينة الطبقة. يشرح الشهود ما جرى: «كان الرجال يرتدون زياً عسكرياً وأقنعة سوداء. احتجزوا زوجة المحامي ووالدته في إحدى الغرف، وبدأوا التحقيق معه في غرفة أخرى. أطلقوا النار على قدمه أثناء استجوابه الذي لم يستمر طويلاً. وكانوا يستخدمون مسدسات مزودة بكاتم صوت، وأطلقوا على رأسه رصاصتين وفتشوا المنزل وصادروا أجهزة الهاتف والكمبيوتر الموجود في المنزل قبل مغادرتهم». وأفاد الشهود بأن أحد الرجال الأربعة يتكلم العربية، بينما يتكلمها الثلاثة الباقون بثقل، وما إن غادر المسلحون حتى وصلت استخبارات «قسد» إلى المنطقة وطوقتها، من دون أن يتصل بهم أحد.
كان السلامة يملك عشرات التسجيلات والمقاطع الصوتية التي توثق عملية المفاوضات بين الأميركيين وقادة «داعش»، إضافة إلى معرفته الكثير من الأسرار عن تفاصيل تخص العلاقة الأميركية بالتنظيم. ولم تكن هذه حادثة الاغتيال الأولى ــ ويبدو أنها لن تكون الأخيرة ــ التي طاولت أبناء فخذ الناصر، ففي اليوم التالي لاغتيال المحامي إبراهيم، اغتيل أسامة الخلف العبد القوي، وهو أحد عناصر الاستخبارات التابعة لقوات «قسد»، حيث أقدم شخصان ملثمان على إطلاق النار عليه من مسدس مزود بكاتم صوت أثناء وجوده في أحد محالّ الإنترنت في مدينة الطبقة، ووفق ما أكد ناشط من المدينة رفض الإفصاح عن اسمه، في حديثه إلى «الأخبار»، فإنه «لا علاقة بين الاغتيالين. وجاء اغتيال أسامة للتغطية على قضية اغتيال إبراهيم السلامة، ولتبدو العملية وكأن خلايا لتنظيم داعش قد قامت بها».

«قسد» تغتال أيضاً

يُعَدّ المحامي إبراهيم الحسن، المتحدر من بلدة حمام التركمان قرب عين عيسى، شمال الرقة، من أبرز المعارضين الذين انخرطوا في «الحراك المدني» منذ بداياته. ونشط في صفوف المعارضة إلى أن سيطر تنظيم «داعش» على المدينة، إذ غادر بعدها إلى تركيا وبقي إلى أن خرج التنظيم من المدينة، ليعود بدعوة من الولايات المتحدة ويتابع ممارسة نشاطه. وعكف على إنشاء «هيئة قضائية مدنية» في تل أبيض، فاصطدم مع استخبارات «قسد» واعتزل العمل.
رأى الأميركيون أن شخصية إبراهيم الحسن مؤثرة في محيطه، إذ يتمتع الرجل بسمعة حسنة، فأرادوا الاعتماد عليه لأنه ابن المنطقة، وسيكون داعماً لمشروعهم بعيداً عن الأكراد، وهذه سياسة اتبعها الجانب الأميركي بعد انتشار قواته على الأرض.

ما زال العناصر «التائبون» من «داعش» ينشطون في «تغيير المنكر»


انخرط الحسن في مجلس «قسد» المدني، ثم صار عضواً بارزاً في «مجلس سوريا الديموقراطية»، وأوكل إليه ملف إعادة إعمار الرقة، وارتبط مباشرةً بالأميركيين، وهذا ما لم يرُق بعض القيادات الكردية التي تعتمد على شخصيات عربية لا ثقل لها على الأرض كواجهة فقط. عاد الحسن إلى منزله منذ قرابة شهر ليجد أن مسلحين ملثمين تخفّوا بين الأشجار قرب بيته، فأطلقوا عليه أربع رصاصات من مسدسات مزودة بكاتم صوت، إلا أن الحسن لم يفارق الحياة ونُقل إلى مستشفى تل أبيض، ولاحقاً نقله الأميركيون إلى أحد مستشفيات أربيل في العراق.

«داعش» باقية

لم يعد حاملو فكر «داعش» يحملون السلاح ويجلدون الناس في الطرقات، إلا أن العناصر المحليين المُفرج عنهم من سجون «قسد» بوساطة عشائرية، ما زالوا حتى اللحظة ينشطون شفهياً. هم يحتجون ويعترضون على لباس الفتيات والنساء، إذ عادوا إلى مرحلة «تغيير المنكر بألسنتهم، وذلك أضعف الإيمان». عدد لا يُستهان به من عناصر التنظيم المُفرج عنهم انخرطوا في صفوف «قسد» بعد أن حلقوا لحاهم، وقد أوكلت إلى بعضهم مسؤولية بعض الحواجز.
كان ياسر من الجنود الذين انشقوا عن الجيش السوري، وانضم إلى أحد ألوية «الجيش الحر» قبيل «تحرير» الرقة في عام 2013، وبايع لاحقاً «جبهة النصرة»، ثم بايع تنظيم «داعش» بعد أن آل إليه الأمر في المحافظة. واستمر بالقتال والتنكيل بالمدنيين حتى لحظة خروج مسلحي التنظيم بموجب الصفقة المشبوهة التي عُقدت بعد الانتهاء من تدمير المدينة. سلّم نفسه لاحقاً لقوات «قسد»، وصار مقاتلاً في صفوفها. حاول مدنيون أن يثأروا منه، فهم لم ينسوا ما فعله بهم أثناء انتسابه إلى «داعش»، إلا أن عناصر «قسد» منعوهم من ذلك، داعين إلى «التسامح ونسيان تلك الحقبة في إطار بناء أمة ديموقراطية».