يواصل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خطواته ورسائله التي يؤكد فيها مضيّه في تنفيذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والتي سبق أن أعلن اعترافه بها عاصمة للكيان الإسرائيلي. ومع أن الانتقال إلى مرحلة التنفيذ هو الخطوة الطبيعية التالية لأي قرار، فإنه ينطوي على رسائل إضافية تتصل بمواكبته المسار الإقليمي، ولكونه جزءاً من مخطط تصفية القضية الفلسطينية، فضلاً عن الدلالات التي ينطوي عليها اختيار موعد التنفيذ، بالتزامن مع نكبة الشعب الفلسطيني، وبصورة عرضية، تقاطع أيضاً مع توالي الفضائح التي يواجهها رئيس حكومة العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أكثر من ملف جنائي.
مهما تكن السياقات الداخلية الأميركية، ودوافع ترامب السياسية والشخصية في اتخاذ هذا القرار، فهو يتعلق بجانب واحد من المشهد المركب المتصل بقرار مفصلي وتاريخي بهذا المستوى، كونه يتصل كمنشأ ومفاعيل وساحة بالتسوية الفلسطينية ــ الإسرائيلية، والبيئة الإقليمية التي تعاظمت فيها التهديدات والفرص بالنسبة إلى إسرائيل بعد سنوات من الصراع الدموي.
لا شك أن طبيعة ردود الفعل وحجمها في العالم العربي شكلا منطلقاً وأساساً في مواصلة الاندفاع نحو تنفيذ قرار نقل السفارة إلى القدس، كما يعبر المقربون من ترامب بالقول إنه بعد الإعلان «لم تسقط السماء على الأرض». لكن الانتقال إلى مرحلة التنفيذ يأتي مواكباً وجزءاً من عمليات إعداد الظروف وإنضاجها لإعلان «صفقة القرن» التي يتم العمل عليها كجزء من خطة مضادة أوسع وأشمل باتت أكثر من ملحة وضرورية ــ إسرائيلياً وأميركياً وسعودياً ــ لمواجهة تقدم محور المقاومة في المنطقة.

ليس عرضياً اختيار الذكرى السنوية للنكبة موعداً لعمل السفارة الأميركية

ولهذه الخطة ــ الصفقة متطلبات وأهداف تفرض العمل الحثيث على تصفية القضية الفلسطينية من أجل سلب مبرر وجود المقاومة عبر الادعاء بأن الفلسطينيين تخلّوا عن أرضهم وبلدهم، وفي النتيجة لم يعد هناك قضية تستوجب وجود مقاومة، وخاصة في حال التوصل إلى صيغة اتفاق نهائي يضغط بها على الشعب الفلسطيني بقواه المتعددة، بما فيها السلطة لتقبلها. هكذا، وفق هذا المخطط، الذي من الصعب جداً أن يمر كما يخططون، أنه إذا لم يعد هناك داع لوجود مقاومة، فالأولى أنه لم يعد هناك قضية للمحور الذي يمتد من فلسطين عبر لبنان وسوريا والعراق إلى الجمهورية الإسلامية في إيران.
من جهة أخرى، لا يُخفي النظام السعودي، ومعه إسرائيل، قلقهما المتصاعد من تعاظم وانتصارات محور المقاومة التي توالت مع انهيار خط الدفاع الذي كانت تمثله الجماعات الإرهابية والتكفيرية، وكان من المأمول أن يستمر على الأقل سنوات طويلة في استنزاف محور المقاومة. ومهما تكن التطورات التي آلت إليها في الساحة العراقية، ومحاولة الولايات المتحدة العودة كقوة احتلال مشرعن، تبلور واقعٌ لم يكن يخطر على بال الجهات الإقليمية والدولية، يتمثل ببلورة قوة عراقية مقاومة قادرة على خوض حروب كبرى ومكلفة متماسكة ومنظمة، وثبت بالتجربة أن لديها الاستعدادات الكاملة للتضحية، وهي تملك رؤية واضحة حول هوية العدو، الأميركي والإسرائيلي، وتؤكد في كل مناسبة بوصلتها التي تتفق مع محور المقاومة.
أما على الساحة السورية، فقد أخفقت كل محاولات إسقاط الدولة ومعها تفكيك تواصل محور المقاومة الذي حقق ترابطاً جغرافياً لم يتحقق منذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران، إلى جانب بلورة قوى بوصلتها فلسطين ومواجهة الإرهاب. أما على مستوى حزب الله، فتعاظمت قدراته العسكرية والصاروخية بصورة كبيرة، وتنامت خبراته القتالية وتطورت. وعلى نحو موازٍ، انتزعت إيران إقراراً دولياً بكونها دولة نووية من دون أن تقدم أي تنازلات تتصل بخياراتها الاستراتيجية والإقليمية.
في مقابل كل ذلك، يعمل الأميركي على عدة خطوط في وقت واحد تتصل بكل ساحة من الساحات، من ضمنها بصورة رئيسية «صفقة القرن» التي يراهن فيها على توفير الأرضية لبلورة تحالف استراتيجي وعلني بين إسرائيل والنظام السعودي، وبقية أنظمة «الاعتدال العربي»، من أجل مواجهة تعاظم تمدد قدرات محور المقاومة. لكن يبقى نجاح كل ذلك مشروطاً بتصفية القضية الفلسطينية التي تشكل عنواناً وهدفاً لهذا المحور. على هذه الخلفية، يأتي التصعيد السعودي ضد فصائل المقاومة الفلسطينية التي ترى أنها تشكل عقبة حقيقية أمام نجاح هذا المخطط بوصفها بالإرهاب والتطرف.
نظرياً، كان يمكن اجتراح سيناريوات عدة تجسّد مخطط تصفية القضية الفلسطينية، ولكن بلحاظ العوامل الداخلية الإسرائيلية والأميركية تم تبني خطة فرض صيغة حلول تلبي أطماع اليمين الإسرائيلي عامة، وتجسد حقيقة الأهداف الصهيونية في أرض فلسطين. ونقطة الانطلاق في فرض تنفيذ هذا المخطط اختارها الأميركي أن تكون قضية القدس، وتتوالى الخطوات التمهيدية للقضايا الأخرى، اللاجئين والمستوطنات. لكن المشكلة في هذا السقف الذي يحاولون في تل أبيب وواشنطن فرضه على الشعب الفلسطيني أنه مرفوض حتى عند أنصار «أوسلو؛، بل يشكل ضربة قاسية لكل المفاهيم والآمال والتنظيرات التي استمرت أكثر من ربع قرن في شرح فلسفة خيار التسوية.
لكن سرعة التطورات الإقليمية التي تزامنت مع متغيرات داخلية أميركية وأوصلت شخصاً بصفات ترامب إلى الرئاسة، رأى فيها نتنياهو ومعه الطبقة السياسية الحاكمة في تل أبيب فرصة لتحقيق قفزات كمية ونوعية في ما كانوا يعملون عليه بالتدريج على الساحة الفلسطينية.
والآن، ليس أمراً عرضياً اختيار الذكرى السنوية لإعلان «دولة إسرائيل»، 14 أيار، موعداً من أجل بدء السفير الأميركي ديفيد فريدمان، عمله مع لافتة رسمية تحمل عنوان السفارة الأميركية برفقة طاقم من الموظفين. أصل اختيار هذا الموعد من تل أبيب وواشنطن ينطوي على تعمد تجاهل كل الصراخ الرسمي الفلسطيني حول ضرورة مراعاة الحد الأدنى من السردية التي كانوا يروجونها لشعبهم، بل هي أيضاً محاولة إذلال أميركية إضافية للشعب الفلسطيني تحديداً، وتهدف إلى توجيه رسائل مفادها أن الساحة لم تعد تحتمل مساحة لخيار ثالث بين إسرائيل والولايات المتحدة في مقابل خيار المقاومة، بكل امتداداتها الفلسطينية والعربية والإقليمية، وهو ما يؤكد أنه لم يعد هناك مساحة للحياد بين المحورين: محور فلسطين الذي يمتد إلى طهران، ومحور تل أبيب الذي يمتد إلى واشنطن، مروراً بالرياض.
ويشير اختيار موعد النكبة لتنفيذ قرار نقل السفارة إلى حرص أميركي ــ إسرائيلي على أن يبدو كتتويج لمسار بدأ في 1948، وامتد عبر 1967، حينما تم احتلال الضفة الغربية وشرق القدس، والآن آن أوان شرعنة احتلال القدس وتهويدها كمقدمة باتجاه أوسع مساحة ممكنة من الضفة المحتلة.
مع ذلك، يتزامن إعلان تنفيذ هذا القرار مع تواصل الكشف عن فضائح فساد نتنياهو، بعد توصية الشرطة بتقديم لائحة اتهام بحقه في قضايا فساد تعرف بأرقام 1000 و2000، في الوقت الذي تتوالى فيه فصول الكشف عن قضايا فساد أخرى. ولا يخفى أن نتنياهو يحتاج إلى «إنجاز؛ بهذا المستوى الذي يخاطب به الجمهور اليميني من أجل تعزيز التفافه حوله. ويمكن القول إن هذا التوقيت يخدمه في أكثر من اتجاه، وسيحاول عبره ـــ مع خطوات لاحقة أخرى ــ تعزيز الطوق السياسي حوله، على أمل أن يساهم ذلك في تثبيت حكومته، وتمتين التفاف «الليكود» الذي تعود إليه الكلمة الفصل في تحديد مستقبل الرجل سياسياً، مع أن من المستبعد أن تغير التطورات السياسية على المدى البعيد المسار القضائي لفضائح الفساد المتهم بها.