مع قليل من المجازفة، دخلت إسرائيل مرحلة الاستعداد الفعلي لما بعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. قبل الفضيحة الجديدة التي باتت تُعرف بـ«ملف 4000»، كانت ملامح هذه المرحلة قد لاحت مع توصية الشرطة بتقديم لائحة اتهام بحقه في قضيتي «1000 و2000». مع ذلك، بقي نتنياهو يتعامل على أساس وجود «نافذة أمل»، بأن لا يصدّق النائب العام على هذه التوصية وتدفن القضية في مكانها.
لكن بعد إعلان خازن أسراره والمقرب منه، المدير العام السابق لوزارة الاتصالات، شلومو فيلبر، تحوله إلى «شاهد ملك»، يعني أن لديه بضاعة مغرية، دفعت الشرطة إلى القبول بالصفقة. ويعني قَبول الشرطة أنها وضعت نصب عينيها التضحية بالسمك الصغير من أجل النيل من القرش الكبير الذي يشكّل رأس منظومة الفساد المغطى سياسياً وبيروقراطياً. يُشار إلى أنّ «الملف 4000» يتركز حول شبهات بصفقة «تغطية إعلامية إيجابية لعائلة نتنياهو في موقع (واللا) مقابل امتيازات لشركة (بيزك) بالملايين من الشواقل».
من دون الدخول في تفاصيل مروحة السيناريوات حول المسارات المقبلة، والخيارات الماثلة أمام نتنياهو، والمفاعيل السياسية والأمنية لما يفترض أنه مرحلة انتقالية، التي سبق أن عولجَت بعد تقديم الشرطة توصيتها، (راجع «الأخبار»، نحو نهاية الحياة السياسية لنتنياهو، العدد ٣٣٩٦، الخميس ١٥ شباط ٢٠١٨)، يمكن تأكيد مروحة من الخطوط العامة التي كانت وستبقى تحكم الواقع الإسرائيلي إلى مدى زمني مفتوح نسبياً.

ستبقى الثوابت اليمينية
هي البوصلة التي توجه الحكومة الإسرائيلية


مع نتنياهو أو من دونه سيبقى معسكر اليمين الإسرائيلي هو المهيمن على الساحة، بل إن بقاء رئيس الوزراء في منصبه طوال تسع سنوات متواصلة، هو نتيجة لامتداد هذا المعسكر في الشارع والمؤسسات. وأي تغييرات مفترضة يمكن أن يتركها توالي الفضائح بحق نتنياهو، حتى لو اتُّهم بها رسمياً، ستبقى تداعياتها محصورة داخل المعسكر نفسه، ولن تؤثر في هيمنة معسكر اليمين على مؤسسة القرار. ويعود ذلك إلى أنها تستند إلى عوامل عدة، من ضمنها وبشكل أساسي، العامل الديموغرافي. وهو ما يتضح من خلال إدراك حقيقة تزايد أعداد الحريديم والروس والمستوطنين الذين يصوِّتون تلقائياً لأحزاب معسكر اليمين، الذي انعكس في سيطرة أغلبية على الكنيست، وبالتالي على الحكومة حيث مطبخ القرار السياسي والأمني.
وترجح المعطيات المتصلة بالمشهدين الحزبي والسياسي الداخلي، المدعومة باستطلاعات الرأي، أن يحافظ حزب الليكود على مكانة الصدارة لمعسكر اليمين، وبالتالي إن خليفة نتنياهو في رئاسة الحزب هو المرجح لتولي رئاسة الوزراء. ومن الطبيعي أن يركز خليفته في المنصبين، جهوده بالدرجة الأولى للمحافظة على مكانته الشعبية. بل تؤكد آخر استطلاعات الرأي أيضاً، أنه مع نتنياهو أو من دونه سيحافظ الليكود على مكانته، إلا في حال حصول تطورات دراماتيكية غير متوقعة، لا يوجد أي مؤشرات عليها حتى الآن.
تاريخياً سيطر على رئاسة الحكومة منذ عام 1948، حزبا العمل (بمسمياته التاريخية، معراخ ومبام)، والليكود (منذ عام 1977). والاختراق الوحيد الذي حصل تمثل بتولي حزب كديما رئاسة الحكومة بعد انشقاق أرييل شارون عن الليكود الذي كان يترأسه على خلفية خلافات داخلية بخصوص الساحة الفلسطينية في عام 2005، ثم فاز برئاسة الحكومة عام 2006، وبقي في الحكم إلى عام 2009، حيث عاد الليكود برئاسة نتنياهو إلى تولي رئاسة الحكومة الذي ما زال يتولى منصبه حتى الان.
على هذه الخلفية، مع نتنياهو أو من دونه، ستبقى الثوابت اليمينية هي البوصلة التي توجه الحكومة الإسرائيلية، إزاء القضية الفلسطينية. بل قد يجد خليفته أنه مضطر إلى مزيد من التطرف في القضية الفلسطينية، بكافة متعلقاتها، من أجل انتزاع شرعية يمينية، وتعزيز التفاف معسكر اليمين حوله.
مع نتنياهو ومن دونه ستبقى أولوية إسرائيل مواجهة التهديد الذي يمثله محور المقاومة والجمهورية الإسلامية في إيران. لأن هذه الأولوية ليست اجتهاداً لزعيم أو معسكر بعينه، بل هناك إجماع في إسرائيل على أن التهديد الاستراتيجي الأشد على الأمن القومي الإسرائيلي هو إيران وسائر محور المقاومة، ولا يتعارض ذلك مع تقدير بعض الأوساط الإسرائيلية بأن القضية الفلسطينية تشكّل تهديداً استراتيجياً يتصل بالطابع اليهودي للدولة على المدى البعيد في حال عدم تنفيذ حل الدولتين. ويتجاوز هذا الإجماع الساحة السياسية ويشمل المؤسستين العسكرية والاستخبارية، التي تصنف حزب الله وإيران رسمياً على أنه التهديد الأول لإسرائيل. مع ذلك، قد يوجد تباين ما، في الوسط السياسي، حول بعض التكتيكات والمرونة الواجب اعتمادها في القضية الفلسطينية، بما يخدم في مواجهة تهديد محور المقاومة...
مع نتنياهو ومن دونه، ستبقى معادلات الردع التي تقيِّد وتحدّ من جموح إسرائيل العدواني، الأكثر حضوراً في وعي وحسابات صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب. ويعود ذلك إلى أن منشأ هذه المعادلات مرتبط بشكل جوهري بوقائع ميدانية واستراتيجية، ونتيجة الانتصارات التي حققها محور المقاومة، وتطور قدراته على المستويين الكمي والنوعي. ولا يعني ذلك، بالضرورة، أن تبدل الأشخاص لا يؤثر في الخيارات، بل للقول إن هامش التأثير سيبقى محدوداً وضيقاً، خاصة أنه في مثل هذه الحالات فإن للجيش التأثير الأكبر في بلورة هذه الخيارات.
مع ذلك، تبقى حقيقة أن تنحي نتنياهو عن المنصة سيفتح الباب أمام مروحة مرشحين ومتنافسين على الصدارة، وسيواجه خليفته في رئاسة الحكومة تحدي إثبات كفاءته في قيادة «الدولة»... الذي سينعكس بالضرورة على طريقة فهمه وخياراته. وبالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي يبقى الجيش الضامن والكابح لأي جموح في هذه المرحلة التي تمرّ بها إسرائيل والمنطقة، الذي يؤكد أداء قياداته أنهم يتمتعون بقدر معتبر من الواقعية في إدراك حجم القيود التي استطاع حزب الله ومحور المقاومة فرضها على الكيان، وتقليص مروحة خياراته الاستراتيجية والعملانية.