في صيف 2014، شهد العالم أكبر حملة إبادة للإيزيدين في سنجار العراقية، على يد «تنظيم الدولة الإسلامية»، فيما نزح الآلاف إلى مخيمات اللجوء، هرباً من المذبحة. بين هؤلاء الناجين، سنتعرّف إلى كوكبة من الأصوات الشعرية الشابة والمجهولة، بنصوص كُتبت في المخيّم وعنه، كمدوّنات شخصية للنجاة من الغرق والنسيان.
أمسية شعرية في عراء المخيّم، بُثّت على موقع الفايسبوك مباشرة، أتاحت لنا التعرّف إلى تجارب سبعة شعراء هم: جنان دخيل، وسرمد سليم، وزيدان خلف، وعماد بشار، وقحطان خلف، وجعفر جوقي، وسعد شفان. تتفاوت نصوص هؤلاء الشعراء في العمق والبلاغة والخصوصية، لكنها تتقاطع عند نقطة الألم والفقدان والموت. نصوص عزلاء ترسم خرائط المخيّم، عفونته، وأزقته الموحلة، والطفولة المجهضة وسط أكوام النفايات، من دون أن تخطئ البوصلة جهة «شنكال»، تلك التي تحوّلت إلى قبرٍ جماعي، ونهر دماء ودموع، وساحة حصار وسبي. كتب هؤلاء الشعراء نصوصهم باللغة العربية، نظراً لصعوبة فهم لغتهم الأم، لكننا سنقع على نبرة مختلفة، في هجاء حياة ذاهبة إلى الهاوية، وعويل حناجر مذبوحة، وغنائية تنطوي على شجن تاريخي، أتى كترجيع لأحوال أسلافهم في جبال سنجار العالية، قبل أن تطيحها سيوف الكراهية والحقد والعنصرية. على أن قراءة موازية لهذه النصوص ستضيء مناطق بلاغية تتجاور مع موجة شعرية عربية، تشتبك مع مفردات الميديا الجديدة في بناء معمار النصّ، بالإضافة إلى سريالية معلّقة في فضاء جمالي متروك للعراء والعزلة والصمت، استجابة لهول المشهد الجحيمي. هكذا تصير الجثث كائنات أليفة تتنزّه على الشاشات بلا اكتراث. أعضاء مبتورة، عاشقة لا فم لها، أسلحة في ثلّاجات الآيس كريم، أرامل، مخطوفات، مغتصبات. مصائر بشر مجهولين لا أسماء لهم إلا في المقابر. يختزل زيدان خلف مأساة اللاجئين بقوله «تقف في طوابير الإغاثة ككلب غير قادر على العضِّ»، ويصف سعد شفان الحياة التي انتهوا إليها في مخيمات النزوح بأنها «حياة جافة كحبال الغسيل تحت شمس الظهيرة». أما جنان خليل فتقول بأسى «ما كان علينا أن نعوّل على الحب كثيراً، كي لا نموت في كل حربٍ تأتي». هنا مقاطع مختارة من استغاثات شعراء إيزيديين تُنشر للمرّة الأولى بالعربية، علماً أنّها ستصدر قريباً ضمن مخطوط قيد النشر، أعدته عفاف مطر.




جنان دخيل

أتركوا العشاق
واجعلوا من خدي ساحة حرب لكم
لتقتلوا بعضكم جميعاً
فجمال خدي لا يهم
سوف أعتبر آثار المدافع غمّازات لي
وأعود كي أحب من جديد.

■ ■ ■

ما كان علينا أن نعوّل على الحب كثيراً
كي لا نموت في كل حربٍ تأتي

■ ■ ■

لو أن الحرب…
تأخرت لحظةً أخرى
لأحببتك حباً كاملاً

■ ■ ■

في بلادي
وحدها الخيمة تعرف
كم هي الجدران بائسة
بدون ظهر يستند إليها
حزني أكبرُ من خيمة
أنا للشتاء
والكلّ يسكنني

■ ■ ■

بالأمس
عندما ودّعتني أمي
عرفتُ من دموعها
كيف أنعشُ العمر من
نزيف الإبادات

سرمد سليم

كانت شنكال محاصرة
دخلت أمي إلى المطبخ
لم يكن هناك طعام
بقيت ساعات طويلة
ثم خرجت إلينا بدموع حارّة وغزيرة
ولهذا كلما رأيت في المخيم طفلاً جائعاً
أبكي.

■ ■ ■

منذ سنوات بعيدة جداً
فتاة تشبهك كثيراً
كانت تصرخ في رأسي:
أريد أن أخرج
أن أنجو
يوم وصلت الحرب إلى شنكال
ضربت بعكازها على رأسي
فخرجت جثة عاشقة لا فم لها

■ ■ ■

رقص كثيراً
قبل أن يذهب إلى الحرب
كان يعرف بأنه سيعود بساقٍ واحدة

■ ■ ■

لشنكال التي تخاف من الظلام
شمس آذار، وصلوات أبي، و«شرفدين»،
لشنكال، تلك البلاد الجائعة
خبز أمي، وقلبي، ونهدا حبيبتي
لتلك الأرض العطشى
يفتح الله أزرار عينيه
ويبكي بغزارة.

■ ■ ■

يتحدثون عن جثث
وصلت إلى طوارئ مستشفى (سنوني)
وسقطت في حقل ملغّم بعبوات ناسفة
جثث صغيرة
جثث بجماجم مشوهة
جثث فصلت عنها أطرافها
جثث هزيلة جداً
جثث لم تترك لها الحرب فرصة أن تقول:
نحن إيزيديون

■ ■ ■

هل تريد أن تطير؟
هل تريد أن ترى البلاد من الأعلى؟
حسناً.. حسناً
الأمر سهل جداً
اذهب إلى سوق شعبي
اشترِ قبعة وضعها على رأسك العاري
كيلا تنقره العصافير
ثم أجلس في المقهى
واشرب شايا خفيفا
انتبه
وأنت تخرج بقصد العودة إلى المنزل
امشِ ببطء شديد
السيارة المفخخة لن تتأخر كثيراً

■ ■ ■

لم أستطع أن أتزوجك
كنت أعرف أن الحرب ستبدأ
شعرت بالخوف من أن تنهضي ذات صباح
وتكوني أرملة
وأن تذهب الابتسامة من وجهك
ولا تعود أبداً

■ ■ ■

ذات يوم
ستصير أشجاراً
صناديق الخشب التي دفناها فارغة
في المقابر

■ ■ ■

الطفل الذي قطع الطريق من الجبل إلى روج آفا
بحذاء أكبر من مقاسه
وحده يعرف أسماء الجنود الذين تركوا أحذيتهم
في شنكال أعلى النموذج

■ ■ ■
أحتاج إلى دقيقة واحدة فقط
لأحدثكم عن امرأة عجوز
تسكن في منزل لا أحد يعرفه
امرأة حذفت رقم المنزل
وأغلقت بابها إلى الأبد
امرأة تعبت من استقبال جثث الأبناء في التوابيت
أحتاج إلى دقيقة واحدة فقط
أو أقل من ذلك
كي أقول لكم اسم أمي

■ ■ ■

بعد أن نعود إلى شنكال
سأقوم بأشياء كثيرة:
سأبحث عن منزل صغير جداً
وفي المنزل عن جدار
يحتفظ بصورة جماعية لعائلة صغيرة
وفي الصورة عن الأحياء
وبين الأحياء أنا.

■ ■ ■

أريد أن يتحوّل قلبي إلى ممحاة كبيرة
أريد أن تترك ثقباً في صدري
القذيفة التي ستسقط على شنكال
بعد صلاة الفجر
أريد أن أمد يدي بسهولة
وأمحو الكراهية من العالم

■ ■ ■

كان يصل إلى البيت ملطّخاً بالدم
كانت تغسله
وتعلّقه على حبل الغسيل
يجفُّ تماماً
ويخرج إلى العمل في الصباح
ذات يوم وهو يعبر الشارع طار ولم يعد
أرادت أن تغسله
للمرة الأخيرة
فتحت خزانة الملابس
سقطت يداها
وسال الدم من قميصه
يجري نهراً في غرفة النوم.

زيدان خلف

اليوم شبت النيران بخيمتين
صرخ الأهالي، بكى الأطفال هاربين
بمؤخرات عارية من الحمَامات
غير أن قناني الإطفاء نسيت دموعها
لم يخمد الحريق،
هل عرفت الآن لماذا يسيل الماء من آذاننا
كلما سمعنا صراخاً؟

■ ■ ■

في سوق الألعاب؛ ينتقي والدك السلاح البلاستيكي من بين كل الدّمى والسيارات ويجلبه لك مع ابتسامة عريضة.
تحجزُ أخاك الصغير في مخزن المواد الغذائية
تعذّبه كما الأفلام، تضع على رأسه بيضة، تصوَب مسدسك البلاستيكي ثم تقص شعره بشكل رديء

■ ■ ■

بيع الأسلحة في ثلاجات الآيس كريم، يؤكد لك مدى لذة القتل من جهة والموت من جهة أخرى

■ ■ ■

المراحيض العامة دليل فولاذي على أن المدينة لا تختلف عن بيتكم، وبيتكم لا يختلف عن المدينة

■ ■ ■

تقف في طوابير الإغاثة ككلب غير قادر على العض، يكتفي بشوربة العدس

■ ■ ■

عِش في المطبخ، عِش في المرحاض، عِش في الخيمة ونُم أينما تريد.

■ ■ ■

أعرف أن المدن أعضاء العالم التناسلية
وأعرف أن المخيم ليس أكثر من ثؤلول على جسد العالم.

■ ■ ■

لم يمنحوننا خيمة
لهذا حمل أبي منزلنا
المحتل فوق رأسه
واتجه إلى المقبرة
الأعناب تبكي عارية
والحقول تسير إلى المنفى
جند الخليفة باعوا النسوة
أنا وحدي أتكسر على ظل شجرة

عماد بشار

أنا علامةُ استفهام على بابِ حزنٍ مضافٌ إليهِ حكاية
أنا شجرتان على مرأى الخريف بينهما مسافة عمرٍ ويوميّ عُطلة.
أنتَ لا تعرفني
ولا تعرفُ اسمي
اسمي مكتوبٌ على جميع بطاقات العبورِ الى كهف الأمنيات التي لم تتحقق بسبب الحرب
صورتي وشمٌ على كتف الإلهِ الذي سحق جميع عبادهِ بعدما فقد حاسة تذوقهِ للدماء
أنا نصفُ عملةٍ نقدية يدفعُها شحاذٌ (شنكالي) كي يشتري علبة سجائرٍ في مساء العيد
أنا عبارةٌ غزلية كتبها «عاشقٌ شنكالي» على غِلاف كتابٍ لشكسبير واهداهُ الى حبيبته التي لا تعرف القراءة والكتابة.
أنت لا تعرفني
ولا تعرف اسمي
اسمي مكتوبٌ على آخر لوحةٍ علقها والِدي في منزلنا قبل أن يفجرهُ الإرهابيون في الثالث من آب.
اسمي مكتوب على عشراتِ المقابر في شنكال.

قحطان خلف

هذه الخيمة
لا تحفظنا مطلقاً
كلما تهب الريح
نغمسُ أقدامنا بالأرض
ونمدّد أيدينا حولها
محاولةً لحفظها
كي لا نعيش في العراء

■ ■ ■

أنتِ عشرة أصابع
وأنا أوتار العود
أرقصيني
بخفة، بلهفة عابراً كل الحدود

■ ■ ■

أن تكون في شنكال
تحتاج الكثير من الوقت
حتى تقرر أنك حي
حُمَم البراكين
المتقاذفة في السماء
ليست إلا انتقاماً للمطر
ونحن الضحية

■ ■ ■

الأزهار التي ذبلت بسرعة
تستر فضيحة قبحهن
أمام جمالكِ
أمي نَقيض العتمة

جعفر جوقي

بعد خمسة قرون أو أقل
على أنقاض العالم
نخلّف وراءنا دورة من التاريخ
نركض ونركض
حيث مساحة من خمسة أمتار
نعانق بعضنا
إلى أن يجرّب أحدنا شعور آدم
وهو وحده في فم الكوكب

سعد شفان

انا تسلسل 13
عائلتنا كبيرة إلى حدٍ ما
مؤخراً، كانت أمي تحصى سنوات النزوح
بالكاد تصبح ثلاثاً
نريد منزلنا غرفة غرفة، وجدرانها بكل صورها المعلقة
نريد المزار الذي دفنا أخي هاشم فيه قبل أن أولد
أنا تسلسل 13
هذا ما يقولونه عن الذين لا يملكون شيئاً
أرقام بسيطة فحسب
هذا ما يقولونه عن الذين يفتحون أزرار قمصانهم كأبواب للموت
هكذا يعلقون المشانق
ليس عليك سوى أن ترفع رقبتك أكثر

■ ■ ■

بينما نرتدي بدلات صفراء
أخبرونا عن المجاري التي يجب تنظيفها
وعن تجميع علب سجائر فارغة
عند البوابة الرئيسية كانوا يرددون أسماءنا حسب الأبجدية
كنا نعلم ما يعني أن تكون إيزيدياً
أن تقبض 20 دولاراً يومياً، وتعود برائحة كريهة للعائلة
كنا نعلم ذلك فحسب

■ ■ ■

أمي تستلم ماكنة الخياطة من المنظمة harikar بتاريخ 5/4/2017
سوف ينشرون هذا
سيقولون بأنك حية، وأن أطفالك يعيشون حياة رائعة
وأن زوجك يرتدي بدلة غالية وربطة عنق حمراء حين يخرج إلى العمل في الصباح
سيقولون أن ماكينة الخياطة جعلت حياتهم أفضل بكثير مما كانت، وأننا سعداء جداً
سيقولون أشياء كثيرة عنا
حينما تكونين مشغولة بوضع الإبرة في عيوننا
لتتجنب المزيد من الدموع في هذه الحرب

■ ■ ■

The UN refugee agency UNHCR
مكتوبة على البطانيات المعلقة في أطراف الخيمة،
أعيد قراءتها كل يوم، مثل الملح في الجرح
تنام معنا وتستيقظ في الصباح قبلنا منذ سنتين وبضعة أشهر

■ ■ ■

حقائب زرقاء تحوي كتب أخي، وأخرى لأختي
ترك «يونيسف» نفسه عليها مثل وشم دون دم
يرفعها أخي على ظهره ثلاثة أيام في الأسبوع
جثته الصغيرة لا تفهم الحرب أو ما معنى يونيسف؟
إنه أمر مخجل أن يعرف هذا العالم الحقير
العالم الذي يسقينا الدم كل لحظة

■ ■ ■

«ديسا كهرب ناي»
تعني لن تأتي الكهرباء مجدداً
تقول أمي بلغتها الشنكالية الميتة:
لا شيء يدخل أكثر من البرد إلى الخيم
يأكلنا السعال ونأكله بلا ضوء
لا بيت لا وطن لا أب هنا
والمكان ضيّق لا يصلح أن يكون مقبرة
النزوح يعني أكثر من الموت
بينما تنظر إلى الخلف،
القرى التي جئت منها بلا ثياب

■ ■ ■

الخيمة الــ un تتأرجح بشدة
لا أعلم من أي جهة تأتي الرياح
أحاول أن أنام مع 11 من أفراد العائلة،
الكل يتنفس تحت البطانية التي تم توزيعها من منظمة un
نحن نعيش الآن

■ ■ ■

في الجانب الغربي من المخيم
هنالك جثة كلب
تشعر برائحته وهي تدخل رئتيك بسهولة
لم أبحث عن سبب قتله، أشعر به في داخلي
في شنكال تحدث هذه الأمور
قد تموت لأنك تمشي
قد تموت لأنك إيزيدي
قد تموت لأن لك يدين
لأنك كافر، لأن تسريحة شعرك عصرية
المفارقة هي كم نحن متشابهون
نبحث عن سبب قتلنا كل يوم
أرأيت نحن لا نختلف كثيراً أيها الكلب؟

■ ■ ■

في طوابير المرضى
يقف الإيزيديون بثيابهم الفضفاضة
بتجاعيدهم التي خلفتها سنوات الألم
74 إبادة
أنهار من القتلى، أنهار من دمنا نحن
في الطواببر
لا بلاد تذكر
لا أشجار تنمو
فقط جثثنا التي تزرعها الارض في المقابر
فقط على رقابنا يسنُّ المتطرفون سكاكينهم
لا أسماء لنا
لا هوية تذكر
في الطوابير
حياتنا جافة كحبال الغسيل تحت شمس الظهيرة

■ ■ ■

صنعت طائرة من الورق
ثم وطناً ما
كي أسافر من الحرب
كجثة حية

■ ■ ■

في النزوح سكنوا في مبانٍ فارغة
علّقوا البطانيات لتفصل بين الغرف
أكلوا الغبار في الطريق بسياراتهم وافواههم المتسخة
انتظروا الله كثيراً ولم يأتِ
انتظروا البيوت والشوارع والقرى أن تلحق بهم
أمام الكاميرات قالوا لكم نحن إيزيديون
نحن إيزيديون
يحق لنا أن نموت بطريقة أنظف من ذلك

■ ■ ■

في الكراج
اخبرتهم بأنني سأذهب إلى مخيم بيرسفي
إلى أين بوسعي الذهاب؟
تلك هي جهتي الوحيدة والأخيرة من هذا العالم