ليس ببعيد عن شاطئ مدينة قيسارية الفلسطينية المهجّرة، تقضم فيلّا فخمة، مكوّنة من طبقتين، مساحة هائلة من الدونمات. داخل جدرانها البيضاء تسكن عائلة نتنياهو، متمتعة بمسبحين كبيرين، تحيطهما أشجار النخيل والصنوبر. لكن الحال لن يبقى كذلك، فرئيس الوزراء قد لا يعود للنوم على سرير فخم، بشراشف حريرية مرتبة بعناية إيدي عاملة منزلية مضهدة، بل من المحتمل أن يذهب إلى السجن، إذ لفتت وسائل إعلام عبريّة إلى أن «دخوله السجن بات مسألة شهور فقط».
المفاجأة ليست في أن حياته السياسية أخيراً كانت أشبه بمن يصارع «موتاً سريرياً»، إذ إن كُثراً تحدثوا منذ الأيام التي سبقت لقاءه بدونالد ترامب، عقب تولي الأخير رئاسة أميركا مباشرة؛ عن أن الرئيس نفسه طلب من معاونيه - في خضم قضية صفقة الغواصات الألمانية - التوضيح إن كان اللقاء سيجري مع رئيس وزراء فعلي أو رجل في نهاية حياته السياسية.

شلومو فيلبر: طعنة في ظهر نتنياهو

تعددت قضايا الفساد التي ارتبط بها اسم رئيس الوزراء، حتى باتت أشبه بمن يرمي بحجر في بقعة ماء فينتج عدد لا يحصى من الدوائر. في البدء، كانت الرشى المالية، فالشمبانيا والسيجار الفاخر، مروراً بصفقة «يديعوت أحرونوت» التي حصل فيها رئيس الصحيفة، أرنون موزيس، على تسهيلات مقابل تقديمة تغطية إيجابية تجاه نتنياهو وأسرته، فضلاً عن مهاجمة خصومه. لم يقف فساد نتنياهو عند هذا الحد، بل وصل إلى درجة المساس بملف أمني حساس هو صفقة الغواصات الألمانية من شركة «تايسنكروب». لكن آخر الفصول كان ملف شركة الهواتف الأرضية «بيزك»؛ القضية التي «تقزمت أمامها جميع الملفات».

تصدّر المشهد
الحديث عن إمكانية الذهاب إلى
انتخابات مبكرة


فلنبدأ من النهاية: استطاعت الشرطة الإسرائيلية تجنيد أقرب الناس إلى نتنياهو ليكون شاهد الحق العام في «ملف 4000» أو ملف «بيزك». والأخير، باختصار، يدور حول شبهات تنسبها الشرطة إلى نتنياهو بأنه عمل خلال توليه منصب وزير الاتصالات، في بداية ولايته الحالية، على اتخاذ قرارات لمصلحة شركة «بيزك»، مقابل أن يعمل مالك الشركة، شاؤول ألوفيتش، على ضمان تغطية إعلامية إيجابية لنتنياهو في موقع «واللا». بعد ذلك، كان من المفترض أن يفتتح الموقع تلفزيوناً، مع حصوله على مناقصات. لمهمة «شاهد ملك» جند رجلاً ليس عاديّاً، لا لناحية منصبه ولا لناحية علاقته ببيت رئيس الوزراء.
فمن هو شلومو فيلبر؟ يرافق نتنياهو منذ عام 1996 في مشروعه السياسي، ويُعَدّ «صندوقه الأسود وكاتم أسراره» بحسب «يديعوت أحرونوت». فيلبر هو المدير العام السابق لوزارة الاتصالات، وأيضاً الرئيس السابق للمجلس الاستيطاني «ييشع». وهو رجل مناصب كثيرة قد لا تحصى، أهمها زعيم «أصحاب الكيباه (القلنسوة)» الذين طعنوا نتنياهو في الظهر.
التطور البارز في المشهد أُرّخ بإزالة حظر النشر عن أسماء المشتبه فيهم المركزيين في ملف «بيزك»، وهم شلومو فيلبر، ونير حيفتس، وستيلا هندلر. وبينما كانت عقارب الساعة تتقدم باتجاه لحظة الحسم، تصدرت العناوين الإسرائيلية قضية الصفقة التي بموجبها تُعيّن القاضية المتقاعدة، هيلا غيرستل، في منصب المستشارة القضائية للحكومة مقابل إغلاق ملف ضد ساره نتنياهو. أخيراً حتى أعلن ليلاً عن توقيع فيلبر نهائياً على اتفاق «شاهد ملك».
وبمجرد توقيع فيلبر على الاتفاق، تدحرجت كرة الثلج في حياة نتنياهو، ولم يعد هناك ما يمكن صدّه؛ إذ إن رئيس الوزراء فوّت على نفسه فرصة الاستقالة، قبل أن تتسارع وتيرة الأحداث وترخي شهادات فيلبير المقصلة على تاريخ رجل سياسي «ستجتهد إسرائيل في محوه وإزالته من الذاكرة الجمعيّة».
اللافت أن نتنياهو اختبر، في ملفي «يديعوت أحرونوت» و«مساكن رئيس الوزراء»، تجربة تخلي مقربيه عنه. مع ذلك، بقيت عائلة نتنياهو تحيط نفسها، حتى اللحظة الأخيرة، بمن سماهم المحلل، يوسي فيرتر، في «هآرتس» بـ«معتمري قبعات المتدينين» على أساس أن هؤلاء «لن ينبسوا ببنت شفة عن أسرار المنزل».

انتخابات مبكرة؟

مع توالي التفاصيل حول قضايا الفساد، تصدّر المشهد الإسرائيلي الحديث عن إمكانية الذهاب إلى انتخابات مبكرة. بقي الصمت تقريباً مكبلاً ألسنة وزراء حزب «الليكود» الذي يتزعمه نتنياهو. هؤلاء وُصفوا بالعاجزين عن الإدلاء بأي تصريح، ومنهم النائب غدعون ساعر، الذي غرّد على «توتير» بكل الكلمات، باستثناء تلك التي تتحدث عن القضية نفسها. أمّا تصريح وزيرة الثقافة، ميري رغيف، فيمكن القول إنه كسر رتابة المشهد، لولا أنه لم يكن سوى ادعاء بأن «الجمهور الإسرائيلي يلمس مخططاً وحملة ممنهجة ضد نتنياهو».
إلى ذلك، اعتمدت وسائل الإعلام على بيانات استطلاع الرأي الذي أجري قبل يومين، مظهراً أن «الليكود» رغم شبهات فساد نتنياهو، لا يزال يحرز تقدماً ملحوظاً على باقي الأحزاب. وفي السياق، أجمع المحللون الإسرائيليون على احتمال فضّ الائتلاف الحكومي وتقديم موعد الانتخابات، علماً بأن الضغوط داخل «الليكود» تشير إلى أنه قد لا يستطيع التوجه إلى الانتخابات برئيس من المحتمل جداً أن يُعاقب بالسجن.
صحيفة «إسرائيل اليوم»، أيضاً اعتمدت على الاستطلاع، لنقل الأجواء السائدة في أروقة الأحزاب، منوّهةً إلى أن الجميع يستعد لاحتمال الانتخابات المبكرة. على اعتبار أن الأخيرة هي واحدة من الخيارات المتاحة أمام نتنياهو لتخطي أزمته؛ ولا سيما أن الاعتقاد السائد بين أحزاب الائتلاف هو أن نتنياهو لن يستقيل من منصبه نتيجة التحقيقات. وعليه تبقى الانتخابات بمثابة «قشة الغريق».
في خضم هذه العاصفة عقد المجلس الوزراي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، أمس، اجتماعه. ظهر فيه نتنياهو «كعصفور كسير الجناح»، قائلاً: «سأتابع العمل والأمور المهمة من أجل الدولة». وبينما بقي الوزراء محافظين على «حقائب الصمت»، نقل الإعلام العبري عن أحد أعضاء الكنيست قوله إن «الصورة التي أمامنا ليست كاملة بعد، ومن الصعب أن نقدّر شكل المرحلة، أو ماذا سيكون بعد ساعات معدودة إثر التطورات الأخيرة».
مع ذلك، يصلح استعارة ما قالته سيما كدمون في «يديعوت أحرونوت» ليختصر ما حدث؛ إن «العاصفة الأخيرة لن تغيّر حياة من يدير الدفة فقط، وإنما وجه دولة بأكملها».