رغم جدول الاعمال المحدّد ببندين تناولتهما زيارة الساعات الخمس لوزير الخارجية الاميركية ريكس تيليرسون لبيروت واجتماعه بالمسؤولين اللبنانيين، الا ان الموقف الذي ادلى به، من السرايا الخميس الفائت (15 شباط)، حيال حزب الله ونعته بمنظمة ارهابية، ناهيك باتهامه بسفك الدماء وعدم تمييز اي من جناحيه السياسي والعسكري احدهما عن الآخر، بدا كأنه يرسل اشارة ادارته الى الانتخابات النيابية اللبنانية في ايار. مما قاله تيليرسون ان على اللبنانيين ان «يلقلقوا» من ادوار الحزب في الداخل والخارج.لوهلة بدا كلام الوزير اول رسالة اميركية علنية الى انتخابات ايار، كي تنسجم مع بعض ما شاع من انطباعات في اوساط سفارات غربية في بيروت نقلاً عن ديبلوماسييها، وهي انهم يشعرون بدورهم بقلق من احتمال وضع حزب الله يده على الغالبية النيابية.

في الساعات القليلة الفاصلة ما بين وجود تيليرسون في عمان الاربعاء، وزيارته بيروت في الغداة، فوتحت السفارة الاميركية في بيروت طوال النهار من مراجع سياسية بدوافع ما ادلى به هناك، بقوله ان حزب الله جزء من العملية السياسية في لبنان. لم يسع السفارة تقديم ايضاحات سوى انتظار وصول تيليرسون كي يصوّب بنفسه، في ورقة مُعدّة سلفاً قرأها من السرايا، خطأ البارحة ويتحدّث عن السياسة «الصحيحة» لادارته بازاء حزب الله، وهي انه لا يزال «منظمة ارهابية». في جانب من الاستسفارات التي تلقتها السفارة، استكشاف وجود تحوّل مفاجئ في واشنطن من الحزب، في وقت تتشدّد في اتخاذ عقوبات دولية حياله ومحاصرته ومحاولة تجفيف مصادر امواله، وكذلك في مرحلة تصعيد المواجهة مع ايران في سوريا والعراق وحيال جيرانها العرب. بانتهاء زيارة السرايا وما قيل فيها، هدأت العاصفة تماماً.

لا موقف اميركياً
من انتخابات ايار، ولا
رغبة في التدخّل


لكن مطلعين وثيقي الصلة بالموقف الاميركي، يُبرزون بعض المعطيات:
اولاها، لم تعدُ زيارة تيليرسون ــ المعروف بأنه قليل الباع بشؤون الشرق الاوسط ــ كونها في نطاق جولة موسعة على دول الشرق الاوسط هي الاولى، من بينها مصر وتركيا والاردن، أُلحق بها لبنان في ضوء تصاعد التوتر اللبناني ــ الاسرائيلي بازاء الجدار الاسمتني والصراع على ملكية رقع النفط والغاز في المياه الاقليمية اللبنانية. مهّد لها مساعده لشؤون الشرق الادنى دافيد ساترفيلد ــ الطويل الباع بشؤون لبنان ــ بزيارته بيروت قبل الوزير، ثم مكوثه يوماً اضافياً بعد مغادرته الخميس. كان هو المولج الفعلي بالخوض في ملف النزاع البحري.
ما تكشّف للمطلعين عن اهداف زيارة تيليرسون ــ الى هذين البندين ــ تأكيد عودة ادارته الى المنطقة بزخم أهملتها ادارة الرئيس السلف باراك اوباما، واستطلاع مدى تغلغل النفوذين الايراني والروسي في هذا البلد بعد الامتيازات الاستثائية غير المسبوقة لطهران وموسكو في سوريا، اضف انخراط الروس في التنقيب عن النفط والغاز في لبنان، واحتمال ابرام عقود تعاون عسكري روسي ــ لبناني. يُزاد الى ذلك الامتداد العسكري والعقائدي الذي بات يمثله حزب الله من الضاحية الجنوبية حتى إيران مروراً بسوريا.
ومن دون ان يكون ثمة تفسير لموقفه اللافت من حزب الله في عمان، الا ان بعض التفسيرات غير الشافية وجد في كلام تيليرسون «تلطيفاً» يستبق زيارته العاصمة اللبنانية، ولا يعرّضها باكراً لأي انتقادات. مع ذلك يعتقد المطلعون على الموقف الاميركي ان ما قاله الوزير في عمان، هو ما تتداوله ادارته في السرّ في تقويمها للوضع اللبناني ودور حزب الله فيه على انه عنصر استقرار داخلي. لكنه بالتأكيد ليس الموقف المعلن منه سواء نُظر الى موقعه في الداخل اللبناني او في ادواره المختلفة من سوريا الى اليمن.
ثانيها، منذ جيفري فيلتمان مروراً بميشال سيسون ومورا كونيللي وريتشارد جونز (لأشهر قليلة) انتهاء باليزابيت ريتشارد منذ حزيران 2016، عُهد الى السفارة في بيروت تقدير الموقف السياسي في مقاربتها الملفات اللبنانية، آخذة في الاعتبار السياسة الخارجية الاميركية المعلنة، وفي الوقت نفسه مراعاة حساسية الوضع الداخلي كونها هي على الارض، اكثر إلماماً بما يحدث. على نحو كهذا، يطبع التكتم والتقليل من الكلام سلوك السفيرة الحالية بما لا يربكها في الشؤون الداخلية. ذلك ما حملها، حتى الآن على الاقل، على تحديد طريقة تعاطيها مع انتخابات 2018، وهو ان لا موقف اميركيا منها، ولا من اي من الافرقاء اللبنانيين المعنيين بها. ما يشير الى رغبة صريحة في عدم التدّخل في هذا الاستحقاق.
على ان تكتم ريتشارد خرج عن طوره في واقعة بدت استثنائية غير مقبولة، حينما استقال رئيس الحكومة سعد الحريري من الرياض في 4 تشرين الثاني، وقيل انه محتجز هناك. سارعت بعد اتصالها بالخارجية الاميركية الى مقابلة رئيس الجمهورية ميشال عون وقائد الجيش العماد جوزف عون كي تخطرهما ان ادارتها لم تكن على علم بالاستقالة، ولا معلومات لديها عن مصير رئيس الحكومة. ناهيك بحضها اياهما على السيطرة على الاستقرار الداخلي.
ثالثها، لا مناص من القول ان الاميركيين يعون تماماً ان لا تأثير لهم ــ كما لسواهم الغربيين ــ في مسار الانتخابات النيابية. لا يتوقعون تغييراً جذرياً في موازين القوى داخل البرلمان، وبين القوى الرئيسية المسيطرة عليه منذ انتخابات 2005، ولا يرون في القانون الجديد للانتخاب منصة صالحة لحصول انقلاب سياسي غير متوقع. بيد ان ما يشغلهم كما اصدقاؤهم الغربيون ــ وهم يؤكدون على ثابتتي الاستمرار في مد الجيش بالمساعدات والاستقرار الداخلي ــ هو التحالفات السياسية في مرحلة ما بعد انتخابات ايار وتأليف الحكومة الجديدة المنبثقة منها. اذ تبدو اكثر اهمية من الانتخابات النيابية، واكثر تعبيراً عن المسار الجديد للبلاد وإن في ظل الطبقة الحاكمة نفسها. يعنيهم خصوصاً مدى تمسّك المؤسسات الدستورية الجديدة بسياسة النأي بالنفس، في مرحلة تقبل فيها المنطقة على سخونة واضطرابات فاقمت فيها الحرب السورية، وانشأت شبكة معقدة من الاشتباكات السياسية والعسكرية الاميركية ــ الروسية ــ الايرانية ــ التركية، وخليطاً غير مألوف من المصالح المتناقضة الناجمة عن الوجود العسكري لجيوش تلك البلدان في الداخل السوري.