الصحافيون الذين لم تطأ أقدامهم قبل ذلك النهار أرض ليبيا، والفتيان المسلّحون الذين كانوا يتسلمون جوازات سفرهم، وحّدهم الذهول باقتحام ما كان عصيّاً على كاميرات البعض حتى الأمس، ومنذ عقود. وساد حبور منتقم من سنوات طويلة من امتناع ليبيا على التغطية الاعلامية الغربية في لحظة تتداعى فيها جدران القلعة، فيما كان ذهول الفتيان بالسلطة التي هبطت عليهم من دون سابق إنذار يتحوّل حيرة وضياعاً أمام الحفل الاعلامي الغازي.
لا أختام ولا لوائح ولا استمارات للعابرين، لكنّ نبيهاً بين من دارت بهم الدنيا الثائرة، حرص على تدوين أرقام الجوازات وأسماء حامليها على دفتر مدرسي، تحسّباً ليوم تعود فيه الأمور الى نصابها والسلطة الى ليبيا. الحرص نفسه هو الذي طلى بالأبيض جدران امساعيد الليبية ليمحو شعارات المؤتمرات الشعبية والكتاب الاخضر، عندما انسحبت الكتائب الامنية التابعة للقذافي من المدينة، لتعود الأيدي نفسها المترددة بين الثورة والحكمة، والتي شتمت وطلت بالابيض، لتخطّ تأييداً ومديحاً بالكتاب الأخضر وملهمه، أو تمحوه على وقع المعارك والكر والفر، قبل أن ينتصر الثوار، ويدخل «الناتو» الى ليبيا.
قطع الصحافيون الخمسمئة كيلومتر التي كانت تفصلهم عن المشهد الليبي، الذي كان يجري إعداده لكاميراتهم وأقلامهم، في الفصل الذي لم يتوقّف حتى الآن من الربيع العربي.
بدت الثورة شرقية في ليبيا ومسلحة منذ الأيام الأولى لشباط، وفي الثالث عشر منه، بدأت المواجهات الاولى في بنغازي، بين الكتائب الامنية ومجموعات صغيرة من المتظاهرين انتظمت حول ما سمّي في ما بعد «كتيبة السابع عشر من فبراير»، قبل أن تنسحب قوات الرئيس معمر القذافي في معركة أخيرة في التاسع عشر من شباط غرباً نحو اجدابيا، ويبدأ العد التنازلي لإسقاط طرابلس و«العقيد».

الحرب الأهلية الليبية استهلكت أربعة وسطاء منذ عام 2012

المدن التي تساقطت كانت كلها في الشرق. وحتى مطلع آذار، كانت «برقة» وحدها تضطلع بمهمة إسقاط طرابلس والنظام بالسلاح. أعلام الملكية السوداء والخضراء، من دون ملكيين، وحّدت الشرق، وهو يبدو للمفارقة منذ ذلك الحين الجزء الأكثر انسجاماً في ليبيا حتى الآن، باستثناء درنة التي يعدّ لها قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، بدعم عسكري مصري وإماراتي، معركة استكمال إخضاع «مجلس شورى المجاهدين» فيها، وما تبقّى من عصاة في الطريق الى سرت.

انتظمت الأيام الاولى للثورة في ميناء بنغازي، وحول مبنى المحكمة العليا. كان عبد الحفيظ غوقة الصورة الأولى للثورة، وجليس كل الكاميرات في فندق «أوزو». كان المجلس الوطني الانتقالي قد جعل منها عاصمة الثورة التي قادها القاضي ووزير العدل مصطفى عبد الجليل، وتحدث باسمها أحمد جبريل. رايات الدول التي صوّتت للقرارين ١٩٧٠ و١٩٧٣ في آذار، كانت تزيّن الجدار الخارجي للمحكمة عرفاناً بالجميل، وأعلام فرنسية وأميركية وبريطانية كبيرة تغطي واجهة المبنى. القراران سيصبحان أكبر خديعة دبلوماسية غربية لروسيا. موسكو صوّتت على نص لم تدرك إلا متأخرة أنه يسمح لمن شاء بالتذرّع بحماية المدنيين في ليبيا للتدخل، كما سيفعل حلف شمال الاطلسي. ولكن ما يذكره الصحافي في المعركة التي ستحدد مستقبل ليبيا، كان من دون شك ما دار على المدخل الغربي للمدينة في التاسع عشر من آذار. كانت الكتائب الامنية قد نفذت إنزالاً بحرياً في بلدة جرجورة، في الطريق بين اجدابيا وبنغازي. تدفقت الدبابات نحو جامعة قار يونس على المدخل الغربي، وفي قلب المدينة، كانت مجموعات مساندة لها قد خرجت في حي «الفويهات» لتشتبك مع الثوار، وتنشر الفوضى في صفوفهم . أقلعت من مطار بنينا العسكري قرب المدينة طائرة مقاتلة، لم يتح لها أن تقصف رتل الدبابات المتقدم، قبل أن تقصفها مضادات الثوار أنفسهم، ويُقتل قائدها وتهوي طائرته جنوب بنغازي.
في هذه المعركة ولدت رواية اغتصاب جنود القذافي لنساء بنغازي، والتي ستكون سبباً في ما بعد بالتعجيل في التدخل الغربي. جاءت ناشطة ليبية معروفة، ستقتل في ما بعد على أيدي «أنصار الشريعة» مع زوجها في منزلها في بنغازي، كانت تحمل معها صناديق مملوءة بعلب منشطات جنسية «فياغرا». وكان على الإعلاميين أن يكرروا ما روته من أن الدبابات التي حاولت اقتحام المدينة، كانت تحمل بين قذائفها علب «فياغرا» للجنود الذين كان من بين مهماتهم اغتصاب البنغازيات.
كانت صورة الغزوة الاطلسية تتبلور وتتضح. بعد ظهر ذلك النهار. كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يعلن للفرنسيين أن أسراب «الميراج ألفين»، تدافع عن بنغازي المهددة بمجزرة. كانت عملية «فجر الأوديسا» قد بدأت. كان الرتل الاول الذي التقيناه في الطريق الى اجدابيا على بعد ١٥٠ كيلومتراً جنوب غرب بنغازي كتلة من الفولاذ الأسود المصهور. لم تكن الحجرة الضيقة التي أعدّت لحشر كائنات بشرية بين حديدها تستضيف شيئاً من بقاياهم. فخلال الساعات التي كنّا نهرول فيها تحت أجنحة الأسراب الاطلسية، كانت طواقم أكثر من عشرين دبابة قد تناثرت رماداً على الطريق الصحراوي.
لم يكلف الليبيون أنفسهم، طيلة الأشهر التي ستلي مجزرة الدبابات الأولى في بنغازي، عناء البحث عن ميادين قتال بعيدة عن الطريق، أي طريق، ولم يخطر ببال أركانهم أو جنودهم التوغل في الصحراء المحيطة بكل شيء. كانت حرباً مستطيلة ساحتها الزفت اللاهب، والاسمنت المشقق، الذي يمنح العابر فوقه إيقاعاً وقفزات تقتل الضجر، ويسهّل فيها للصحافي إحصاء الخسائر والجثث واختيار مواعيد التغطية للتلفزة.
كانت الحرب الأهلية الليبية ستمتد مئات الكيلومترات حول الطرق المعبدة نفسها، من دون أن تغادرها إلا لماماً، عندما تتفرع في قلب البلدات القليلة، نحو اجدابيا أولاً، وراس لانوف، والبريقة، وبن جواد، والوادي الاحمر، على عتبات سرت. تقدم الثوار مرات وتراجعوا مرات كثيرة. كانت المعارك تدرج في العداد، اجدابيا واحد واثنان، راس لانوف واحد واثنان، بن جواد أيضاً....هكذا دواليك، حتى طرابلس، وعملية «فجر عروس البحر».
كان ينبغي أن ألاقي رصاصة في معركة بني وليد، في أيلول، كي أعرف أكثر عن حقيقة تلك العملية ومن أسقط طرابلس. في أيلول لجأ سيف الاسلام القذافي الى الورفلة، في بني وليد لمواصلة القتال، وعلى أبوابها ارتطمت بقطار عندما عبرت بي رصاصة. كان وجعاً اخترق كتفي وصدري، ولكني هويت. فمنذ أن بدأت الحرب، وككل صحافي، انتظرتني رصاصة في منعطف ما، أو خلف ساتر ترابي، أو ممر مرصود بالقنص، وكنت أعرف أنها آتية، لكنني لم أكن انتظرها. عندما وصلت، نسيت موعداً لم أتمكن من التملص منه.

فشل الوساطات يعود إلى عدم إشراك القوى الفعلية في الميدان

في مستشفى طرابلس ، بين حقنتي مورفين، كانت زيارات مسؤول فرنسي تعوّض عن الغياب عن الميدان، بروايته ما فاتني من معركة طرابلس: « مصطفى عبد الجليل ينبغي أن يبقى مؤذناً وألا يعود الى السياسة، أما أحمد جبريل فلم يكن على مستوى القيادة، وعندما اتفقنا على مواكبته عملية إنزال قوات خاصة فرنسية على شاطئ طرابلس فجر العشرين من آب 2011، لملاقاة قوات عبد الحكيم بلحاج القادمة من جبل نفوسة... لم يحضر، والمعركة مضت من دونه».
سيقول لي في ما بعد ضابط بريطاني إنّ «ليبيا حسمت معركتها في آذار، ومنذ اللحظة الاولى». وكان محقاً. على جدار المدمرة «كوين اليزابت» كانت
عشرات الشاشات تعرض صور شوارع المدن الليبية مباشرة من الأقمار الاصطناعية، أو طائرات الـ«أواكس». كنت أجول مع صحافيين في قلب المدمرة التي تبحر قرب الساحل الليبي، قبالة مصراتة. فما ان بدأت «فجر الأوديسا» حتى خرجت الطائرات الليبية من المعركة. أصبحت المعارك برية. أكثر من ٣٦٠
طائرة، كثير منها عربي، ستشارك في تدمير البنى التحتية الليبية، وإنهاء المعركة. هذه الأسراب لا تزال حاضرة في ليبيا، لا سيما الإمارات. خبير دبلوماسي عربي يعمل مع المنظمات الدولية في ليبيا على استنباط حل سياسي، لا يزال بعيداً. يقول إنّ الامارات لا تزال أهم قوة تدخل «امبريالي» في ليبيا. الدولة التي تقترب في وظيفتها من إسرائيل بنظر أميركا، تملك هي أيضاً أكبر قوة تدخل جوي، وتعمل في ليبيا واليمن وسوريا، وتفرض نفسها على اللاعبين الدوليين. العجب الذي يبديه يشرح أيضاً سبب فشل الحل الإقليمي في ليبيا، وعجز قوة كبيرة كمصر عن فرض رؤيتها ومصالحها التي تتوافق مع حل سياسي واستقرار، في بلد يعدّ امتداداً استراتيجياً مع الجزائر، ولأمنها، في حين أن الامارات البعيدة، إذا سلمنا مع بعض الخبث، لا مصلحة لها في دعم سياسة استقرار أو حل سياسي. ماذا يفعل المصريون مع هؤلاء؟ ولماذا تكتفي مصر بدعم طرف عسكري كخليفة حفتر غير قادر على الحسم العسكري، ولا تفرض خطة لإعادة الاستقرار؟

ليست خصوصية ليبية، ولكن الحرب الاهلية الليبية استهلكت أربعة وسطاء منذ عام 2012 من دون أدنى اختراق. طارق متري، برناردينو ليون، ومارتن كوبلر، وأخيراً غسان سلامة. أسباب الفشل عديدة. الفشل مستمر من اتفاق الصخيرات قبل عامين، ولقاء سيل سان كلو، الذي رعاه الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي لم يجف حبر تعهداته حتى كان الطرفان ينعيانها في الصحف من باريس، وفي اليوم التالي، حتى محاولة غسان سلامة في تونس خلال الصيف البناء عليه، وتعديله من خلال إدخال خليفة حفتر، القوي شرقاً، مع المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، التي يدعمها الغرب، والمجلس الأعلى للدولة، في معادلة جديدة. الفرنسيون يدعمون حلاً سياسياً في ليبيا نظرياً، وإعادة ترميم الحاجز الليبي الأخير أمام موجات الهجرة، وهم يدعمون مبادرات غسان سلامة والامم المتحدة، لكن لفرنسا علاقات مميزة مع حفتر أيضاً، بسبب الشراكة مع الدول الخليجية التي تدعمه أيضا كالإمارات. كذلك فإن المنافسة مستمرة مع الايطاليين على المصافي الليبية، التي كانت شركة النفط الايطالية «ايني» تدير أكثرها.
يقول الخبير العربي إن فشل الوساطات يعود أولاً الى محاولتهم جميعاً بناء اتفاق، لكن من دون إشراك القوى الفعلية في الميدان. جرت محاولة قبل أيام تم خلالها جمع قادة سبعة ميليشيات أساسية في طرابلس للتفاهم في ما بينهم بدفع من قوى غربية وسيطة، لتوحيد قواها، لكن لا أحد يريد الكشف عنهم. لو نجح الرهان لكان سيؤدي الى إنشاء قوة عسكرية موازية في الغرب لقوة خليفة حفتر، وقادرة على إحداث التوزان المطلوب مع رجل الشرق القوي، والموحّد ولو شكلياً في مواجهة الغرب المنقسم. الفشل سيستمر، لأن الحلول الدائمة لا تأتي من أصحاب القضية وليس بإسقاطها من فوق. وهناك تساؤل مشروع عن حقيقة رغبة الدول المتدخلة في التوصل الى حل، حتى ولو كان من البديهي الزعم أن أوروبا تدفع غالياً ثمن انهيار الحاجز الليبي أمام تدفق آلاف المهاجرين الأفارقة نحو شواطئها.
وإذا كان لا بد من وصف المشهد الليبي بعد سبعة أعوام على إسقاط نظام الرئيس القذافي، فهو أن الانقسام بين الغرب والشرق لا يزال عميقاً، مع قدر معقول من الاستقرار حيث لم تعد ليبيا في وضعية الحرب الاهلية المفتوحة. ولا تزال ليبيا ساحة صراع مفتوح لمحاربة الاسلام السياسي، وخلاف المحاور بين قطر وتركيا من جهة، ومصر والسعودية والامارات من جهة أخرى. لكن التيار «الإخواني» الذي يخشاه هؤلاء لم يكن قوياً بعد سقوط طرابلس في آب 2011، والتي لم يحظَ فيها بأكثر من عشرة في المئة في الانتخابات الاولى. لكن تراجع الإسلام السياسي، يخلي المكان شرقاً وغرباً للسلفية المدخلية.
هذه المجموعة الوافدة من تيار سلفي سعودي يقوده حكم عدم الخروج على ولي الامر، تحوّلت الى أحد أقوى التيارات اليوم في ليبيا. وقوة هذه المجموعة أنها توجد في الشرق، في بنغازي، وباتت تشكل العمود الفقري لقوة خليفة حفتر الضاربة، كذلك في الغرب في طرابلس على رأس القوة المنافسة... لحفتر. زعيمهم عبد الرؤوف قارة الذي يدير الأذرع الأمنية لقوة حكومة الوفاق، وتوفر لفائز السراج الحماية الضرورية ضد الميليشيات... وضد حفتر، من دون أن تصطدما حتى الآن. الانسجام يوفره أن وليّي الأمر في الغرب والشرق لا ينبغي الخروج عليهما.