أن يطلب رئيس دولةٍ، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، توجيه ضربة نووية لأي دولة في العالم أمر سهل وممكن في أي لحظة. لكن ذلك يجب أن يمرّ بسلسلة من القادة الذين يستطيعون مساءلة الرئيس أو حتى الطلب منه وقف قراره إذا وجدوا ذلك غير ضروريّ أو غير منطقي. وهذا يصحّ على أية دولة نووية أخرى بدءاً من روسيا والصين وصولاً إلى كوريا الشمالية، أحدث دولةٍ في النادي النووي.
الزرّ الأحمر الشهير على طاولة الرئيس وفي متناول يده اليمنى هو محض خيال مشوّق يستهدف، من جهة، رفع منسوب الثقة بالنفس وبقوة القيادة عند جمهور الدولة، ومن جهة أخرى إثبات قوة الدولة وتفوّقها على خصومها في العالم.
ولعلّ آخر نقاش علني حول استخدام «الزرّ الأحمر» هو ذاك الذي دار، أخيراً، بين قيادتي الولايات المتّحدة وكوريا الشمالية، وتحوّلت منصة «تويتر» إلى ساحة مبارزة في امتلاك الزرّ والقدرة على تشغيله. لكن امتلاك القدرة أمر، ووضعها موضع التنفيذ أمر آخر. بمعنى آخر، لدى الرئيس الأميركي، مثلاً، السلطة والصلاحية الكاملة لطلب توجيه ضربة نووية بقرار ذاتي في حال وجد أن بلاده معرضةٌ للخطر. لكنّ ذلك الأمر سيمرّ، أولاً، بقائد القوّة النووية، وهو نفسه القائد العام للقوات الجوية، الذي يستطيع أن يرفض أو يضغط على الرئيس لسحب طلبه إذا كان غير مبرر. ووجود سلسلة من التراتبية القيادية في تنفيذ القرار تعتبر ضروريةً وأساسيّةً لحماية العالم من أي خطوات متهوّرة، وتثبت أنّه حتّى هذا القرار ليس ملكاً لفرد واحد ولو كان رئيساً، بل يخضع أيضاً لقرار القيادة العسكرية والإدارة الأمنية لأي بلدٍ. لكنّ الضامن الرئيسي لمنع استخدام هذا السلاح يبقى، من دون شكّ، في وجود ردعٍ نووي مقابل من قوىً تستطيع حماية نفسها وردّ العدوان بمثله، ليشكّل التوازن الضمانة الفعلية. وهي ضمانة أقوى وأسمى من حكمة الفريق المولج تنفيذ قرارات الرئاسة.
في هذا السياق، تصبح حفلة تبادل التصريحات والتهويل باستخدام «الزرّ» مجرّد فقاعات إعلامية كاذبة، لأنّه لا يوجد، حرفياً وفعلياً، أي زر أحمر ولا من أي لونٍ آخر لنقره وتدمير العالم. وفي هذا السياق، يصبح تصريح الرئيس بجهوزيته لكبس الزرّ كمن يكذب الكذبة فيصدّقها. قد يكون الزرّ الوحيد المتوفّر هو ذلك المخصص لطلب الطعام أو الضيافة. لكنّ التصريحات الأخيرة على «تويتر» خلقت موجةً معديةً من الخوف أو التباهي، فانتشرت التقارير والأخبار السريعة حول الزرّ الجبّار كالنار في الهشيم، وتداولها كل العالم خلال ساعات كما لو أنّها حقيقةٌ مشرقة وخطرٌ داهم.

الزرّ الأحمر الشهير على طاولة الرئيس محض خيال مشوّق


إنّ عملية اتخاذ القرار النووي في الولايات المتّحدة وتنفيذ ضربة نووية هي عملية معقّدة وتتطلّب مراحل عدة وموافقات، سواء كان القرار يتعلق باستعمال أسلحة نووية تكتيكيّة صغيرة أو أسلحة دمار كوني شامل. وبحسب القانون، الرئيس هو الشخص الوحيد المخوّل إعطاء الأمر بتوجيه ضربةٍ نووية. لكن، فيي حال كان القرار غير مبررٍ وليس ذا حاجةٍ قصوى، وسيؤدي إلى دمار كبير يمكن تجنبه، يستطيع المسؤولون العسكريون الكبار رفضه، وبالتالي يمكن للمسؤولين المعنيين عدم تشريعه على الإطلاق. أمّا في حال قدّر هؤلاء، وفي طليعتهم قائد القوّة النووية وقائد القوات الجويّة، أنّ هناك خطراً داهماً على البلاد سيؤدي إلى حدوث دمار كبير، يمكنهم حينها تشريع الأمر الرئاسي ووضعه موضع التنفيذ. ولا يجري تنفيذ الأوامر إلّا بعد التأكّد من أنّها أتت من الرئيس نفسه بالفعل، وعبر مرحلتين من الكودات السريّة والمشفّرة المتّفق عليها مسبقاً. أمّا في الدول النووية الرائدة الأخرى، مثل روسيا، فتحتاج عملية إطلاق صاروخ نووي إلى المرور بهيكليّة قيادية مشابهة في وزارة الدفاع وقيادة الجيش والقوات النووية. فالزرّ الجبّار غير موجود أيضاً في روسيا ولا في أي دولة نووية أخرى. غير أنّ الهرمية الروسية لا تتطلّب وجود شخصٍ واحد محوري في كل مراحل أخذ القرار وووضعه موضع التنفيذ وصولاً إلى التحقق من الرموز المشفرّة، بل توجد فيها مشاركة أوسع من قبل القيادة العسكرية العليا المسؤولة عن معظم التفاصيل التنفيذية. ويختلف هذا النظام في دول أخرى، ففي باكستان يوضع القرار لدى قيادة الجيش إلى جانب السلطة السياسية. أمّا في الهند فيدير العملية جهاز مدني مختص تحت إمرة القيادة السياسية للبلاد.
الضوابط النووية لا تتحقّق إلّا من خلال حالتين لا ثالث لهما: نزع شامل للسلاح النووي أو ردع متوازن في امتلاك السلاح النووي. هكذا، يمكن وقف أي قرار «حكيم» أو «مجنون؛ عند أيّ رئيس حاليّ أو قادم، وهذا ما عمل عليه عدد من الدول حول العالم حتى اليوم، رغم كل الضغوط والمعيقات، فحمت نفسها وربما تحمي العالم من أي جنوح أحادي للتدمير والإخضاع.
لا يمكننا الجزم أنّ جزءاً من القيادة العسكرية يمكن أن يوقف قراراً نووياً عند الرئيس الأميركي إلّا في حال كان قراره مجنوناً فعلاً. ولا يمكن أن نتفاءل بوقف حصول الهجوم في حال اتّخذ قراره. لكنّه لن يكون بالتّأكيد من خلال زرّ ترامب الأحمر الذي لا يستطيع نقره إلّا على «تويتر»، ولن يمنعه سوى منظومة الردع الموازية، مهما علا صوت التغريدات.