لم تنجح الضغوط والمناورات كافة التي لجأ إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال الأشهر الماضية في ثني جهاز الشرطة عن التوصية بتقديم لائحة اتهام بحقه، وهو ما يعني ــ بعد تصديق المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت ــ محاكمته بتهم الرشوة والفساد. في هذه الحالة، يمكن التقدير أن إعلان الشرطة هو بداية نهاية الحياة السياسية لرئيس الوزراء الذي مضى على توليه منصبه 8 سنوات (قبلها تولى هذا المنصب لثلاث سنوات 1996 ــ 1999)، وهو ما يتوقع أن يؤدي، ولو لاحقاً، إلى تداعيات حكومية وسياسية وحزبية.
مع أنه حتى الآن ما زال الأمر مقتصراً على توصية الشرطة، فإن هذا الإعلان تردد صداه في الساحتين السياسية والإعلامية في الداخل الإسرائيلي. فاحتل الحدث صدارة الاهتمام السياسي والإعلامي والجماهيري، وتنوعت التحليلات التي تناولت مجمل جوانب هذه القضية ومفاعيلها السياسية والحكومية، لكنها أجمعت في غالبيتها على بدء العد العكسي للحياة السياسية لنتنياهو.
ينبغي التذكير بأن هناك أكثر من ملف وقضية يجري التحقيق حولها مع نتنياهو، تُعرف الأولى بـ«القضية 1000»، وهي تتناول اتهامه بتلقي أموال وهدايا من رجال أعمال خلافاً للقانون (شمبانيا وسيجار...)، وتعرف الثانية بـ«القضية 2000»، وتتناول اتهاماً بالاتفاق على تبادل منافع شخصية بين نتنياهو وناشر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أرنون موزيس، إذ بموجب هذا الاتفاق يعمل الأخير على فرض تغطية إعلامية موالية لنتنياهو في الصحيفة، مقابل تكفل رئيس الوزراء العمل على تقييد صحيفة «إسرائيل اليوم» الموالية له، التي توزع مجاناً، وهو ما سينعكس بالضرورة لمصلحة توزيع «يديعوت» التي استطاعت «إسرائيل اليوم» إزاحتها عن المرتبة الأولى. أما في ما يتعلق بقضية الغواصات، المعروفة بـ«القضية 3000»، لم يوجه حتى الآن اتهام رسمي، بل لم يحقق معه حولها، واقتصر الأمر على مساعديه.

بالسؤال عن خيار
الهرب نحو الخارج، لا يملك
نتنياهو قرار الحرب وحده

في ضوء توصية الشرطة بتقديم لائحة اتهام، لا يوجد ما يفرض على نتنياهو الاستقالة من الناحية القانونية، لكن مستقبل الحكومة حتى الآن مرهون بالموقف السياسي لشركائه، حزب «إسرائيل بيتنا»، و«البيت اليهودي»، و«كولانو»، والأحزاب الحريدية، التي ربط زعماؤها موقفهم النهائي بقرار المستشار القضائي للحكومة.
المسار القضائي لمستقبل الشُّبهات التي تحوم حول نتنياهو مرتبط بموقف المستشار القضائي من توصية الشرطة غير الملزمة له، ولكن موقفه سيكون خاضعاً للرصد السياسي والإعلامي والشعبي، خاصة أن ما سيصدر عنه سيشكل منعطفاً حاسماً إما باتجاه محاكمة نتنياهو أو إغلاق الملف. نتيجة ذلك، ستتركز الضغوط السياسية والشعبية عليه بين من يريد الدفع نحو المحاكمة وآخر يسعى إلى التبرئة. ومن الواضح أن القوى التي تتشكل منها الحكومة لديها مصلحة باستمرارها، ولو أن أياً منهم كان ينتظر مبرراً لتفكيك الحكومة، كان بإمكانه التذرع بتوصية الشرطة للضغط باتجاه استقالة نتنياهو أو إسقاط الحكومة. لكن بما أن القرار الحاسم يصدر عن المستشار القضائي تذرع الجميع بذلك لكسب المزيد من الوقت.
هكذا، يتضح أنه بعد صدور موقف المستشار القضائي تصبح للقضية آفاق وتداعيات مختلفة تماماً يمكن مقاربتها حينئذ. وإذا صدّق المستشار على توصية الشرطة، فسيصبح من الصعب جداً على نتنياهو رفض الاستقالة، حتى لو لم يفرض عليه القانون ذلك، بل سيكون صعباً على بقية شركائه البقاء في الحكومة وسيمارسون الضغوط عليه للاستقالة، ويتوقع أن ترتفع الأصوات من داخل «الليكود» لهذه الغاية بهدف الحفاظ على الحزب.
مع ذلك، استقالة نتنياهو أو إقالته لا تعني بالضرورة الذهاب نحو انتخابات مبكرة، بل يبادر رئيس الدولة إلى إجراء مشاورات نيابية يُختار بموجبها عضو كنيست كي يشكل حكومة من جديد، تعرض على الكنيست. وفي حال نيل ثقة الأخير، تستطيع الاستمرار إلى حين استكمال ولاية الكنيست، ولا تُجرى انتخابات مبكرة في هذه الحالة إلا في حال العجز عن تشكيل حكومة خلال 70 يوماً.
عادة في مثل هذه الحالات، كثيراً ما يتردد التساؤل في الأوساط السياسية والإعلامية عمّا إن كان مثل هذا التطور يشكل دافعاً لنتنياهو إلى الهرب نحو خيارات عدوانية خارجية. ويُبرّر هذا الاحتمال بـ«حرف الأنظار»! أو محاولة التأثير في قرار المستشار القضائي. مقابل ذلك، ينبغي تأكيد أن لرئيس الحكومة الإسرائيلية دوراً أساسياً في صناعة القرار السياسي الأمني، لكن هذا الدور غير مطلق، بل يأتي في سياق مجموعة من العوامل الأخرى التي تُسهم في بلورة هذا القرار. فعلى المستوى القانوني، من يملك صلاحية اتخاذ قرار الحرب في إسرائيل هو الحكومة ــ المجلس الوزاري المصغر. ومن ناحية عملية الشخصيات الأكثر تأثيراً في أي قرار عسكري، استناداً إلى التجارب السابقة، هم رئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس أركان الجيش.
مع ذلك، إن تأثير رئيس الوزراء في صناعة القرار السياسي الأمني لا ينحصر بصفته الرسمية، بل قد يضيق أو يتسع بلحاظ مجموعة من العوامل المتصلة بتاريخه وخبرته ومكانته في الواقع الإسرائيلي وثقة الجمهور والمؤسسات به، وأيضاً بتناغم المؤسسة العسكرية والاستخبارية معه. يضاف إلى ذلك حضور الموقف الأميركي كعامل رئيسي في بلورة قرار الحرب. وفي ما يتعلق بالاعتداء على لبنان، فإن حسابات الكلفة والجدوى وثبات حضور هذه الحسابات في وعي مؤسسة صناعة القرار السياسي والأمني أكبر وأشد تاثيراً من أي عامل آخر.
رغم ما تقدم، يمكن نتنياهو توظيف أي تطور ميداني تتخذه المؤسسة الإسرائيلية على المستويين السياسي والإعلامي، ومحاولة الضغط باتجاهات معينة، ولكن تبقى مثل هذه «الإنجازات» ظرفية الطابع، ومحدودة التأثير، بل قد تنقلب في بعض الأحيان سلباً عليه.