طيلة نصف قرن ونيف من الزمن، تاريخ مسيرة بيار صادق (1938-2013)، لم يرد الفنان الراحل، التآلف مع آلة التكنولوجيا الحديثة في عمله الكاريكاتوري اليومي. حتى آخر أيام حياته، رفض الدخول الى هذا العالم. ظل وفياً الى ريشته، وألوانه، حتى بعد إدخاله الكاريكاتور المتحرك من الورق الى شاشة التلفزيون (lbci – 1985)، وريادته في هذا المجال، ورغم تطور هذا النمط عبر الزمن، وانتقاله الى شاشة «المستقبل» (2002).
بعد خمس سنوات على رحيله، دشنّت «مؤسسة بيار صادق» أخيراً معرض «بيار صادق يحاكي التاريخ» في «متحف سرسق». يضم الأخير أكثر من 350 رسمة تؤرخ لحقبة تمتد بين أواخر الخمسينيات وصولاً الى 2013، عام غياب صادق. رسومات صحافية وعروض بصرية لأعماله التلفزيونية، توضع اليوم في صالة العرض، لتكون أمام مرأى جيل عاصره وجيل آخر لم يتسنَ له ذلك، وبات عالمه الوحيد الألواح الإلكترونية ونبذ الورق.
إذاً، أكثر من 350 رسمة وضعت ضمن مشهديات تحاكي حقبات من تاريخ لبنان. المتصفح لها لا بد من أن يتدرج بهذا التاريخ منذ نهاية الخمسينيات، مروراً بمحطات أساسية طبعت تاريخ لبنان وعلاقته بأحداث مفصلية في الشرق الأوسط والعالم، أغلبها يقع في خانة الجدل، والانقسام السياسي والشعبي الحاد. فالمعروف عن صادق إثارته للجدل في رسوماته، لا سيّما تلك المتعلقة بفترتيّ الوجود الفلسطيني على الأراضي اللبنانية، وفترة الوجود السوري العسكري والأمني أيضاً. الى جانب مواقفه من عهود ورؤساء حكومات متعاقبة، ومن أحداث عدة، ارتبطت بتحرير الجنوب اللبناني، وبسلسلة الاعتداءات الصهيونية، إضافة الى ملفات يومية داخلية، سياسية محددة. ولعلّ منظمي المعرض، نسجوا هذه الرسوم، ضمن ثيمات محددة، ليعيدوا تأريخ تلك الحقبات، وأيضاً، ليضيئوا على أيديولوجيا وفكر بيار صادق، الذي لم يتوان يوماً عن التعبير عنها بريشته، ولعلّ أبرزها، تخصيص بعض منها لإلقاء الضوء على فكرة «الميثولوجيا المسيحية» وربطها بنشأة لبنان.
رسوم بالعشرات، مستلقية تحت زجاج شفاف، وأخرى معلقة على الجدار، نال منها «الترهل» لمرور الزمن عليها. وللمرة الأولى، سيتيح لنا جناح صغير في المعرض برؤية أعمال طالها مقص الرقابة، ورفض الكاريكاتوريست العريق يومها الامتثال لاقتطاع أو تعديل أجزاء منها، الى جانب بورتريهات لرؤساء وشخصيات سياسية وصحافية، تعرض للمرة الأولى أيضاً. علماً أن غرفة صغيرة أخرى، خصصت لعرض وثائقي عن بيار صادق (50 دقيقة)، جمع شهادات أحياء وراحلين عنه أمثال: الياس الهرواي، رفيق الحريري، مي كحالة، حسين الحسيني، غسان تويني، عمر كرامي، الياس الديري وغيرهم.

سيتاح للزائر رؤية أعمال طالها مقص الرقابة ولم تعرض سابقاً

أرشيف صادق (يصل الى 30 ألف رسمة، وما يعادلها تلفزيونياً)، الذي يوضع اليوم جزء منه، أمام زوار المعرض، لمدة شهرين، كان قد أُرّخ ووثق كله ضمن محفوظات «جامعة الروح القدس ـ الكسليك» منذ عام 1975 حتى 2013. في حديث مع «الأخبار»، يعتبر نجله عمر أن «بيار صادق يحاكي التاريخ»، يمثل تاريخ لبنان بالكاريكاتور، عبر وضع هذه الحقبات زمنياً، مع تركيز على حقبة الرئيس شارل حلو، الذي كانت تربطه بصادق علاقة جيدة في الستينيات، وخلّصه مرة من محاولة اعتقال على خلفية رسومه. ركز عمر صادق على توجه المؤسسة الى الجيل الشاب، وتعريفه برسوم والده، مع ترداده الساخر بأنّ شيئاً لم يتغير في الطبقة الحاكمة منذ تلك الحقبة الى اليوم، وبالتالي تصلح رسوم الكاريكاتوريست اللبناني، لإسقاطها على الزمن الحالي.
في عصر تراجع فن الكاريكاتور، ودخول الصحافة الورقية في أزمات متلاحقة ومصيرية، توضع هذه الرسوم اليوم، لا سيّما الورقية، والمعمّرة، لتكون أداة تواصل مع قارئيها. لا يرى عمر صادق، هنا، أي خوف من تلاشي هذا الفن، مع إقراره أن هناك «فراغاً حاصلاً على مستوى هذا الفن في لبنان»، فالناس ـ برأيه ـ يلاحقون المضمون الجيد «أياً كانت الوسيلة». ويضيف أنّه ربما من حسنات الرقمنة أنّه باستطاعة المتابع اليوم، مشاهدة مشاركات صادق التلفزيونية، ساعة يشاء، بخلاف الزمن الماضي، الذي كان فيه يضطر للتسمّر أمام الشاشة وانتظار انتهاء النشرة للمشاهدة.
قد يكون معرض «بيار صادق يحاكي التاريخ»، استعادة بالصوت والصورة، والرسوم التي تشكل وثائق حيّة اليوم، تأريخاً لحقبات تعود بنا، الى نصف قرن من الزمن. إلا أن الثابت والأهمية بمكان، أن يعاد هذا الفن العريق الى الضوء من بوابة بيار صادق (مهما اختلف العديد معه)، أو غيره من أبناء جيله، والمؤسسين لهذا الفن، لا سيّما مع خطورة اندثاره حالياً، أو تحولّ صناعته عبر أدوات أخرى، تحديداً على المنصات الإلكترونية.

معرض «بيار صادق يحاكي التاريخ»: حتى 30 نيسان (أبريل) ـــ «متحف سرسق» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/202001