مصلحة الدولة العليا تقتضي، بحسب قاضي التحقيق الأوّل في بيروت غسان عويدات، ألا يُدّعى قضائيّاً على الوزير السعودي ثامر السبهان. لذا، تَقرّر «حفظ الأوراق». هذه خلاصة القرار الصادر أمس،عن عويدات، في شكوى المواطن نبيه عواضة بحق السبهان. قاضي تحقيق يتحدّث عن «مصلحة الدولة العليا» في متن قراره، حرفيّاً وبلا مواربة؟ مسألة غير مألوفة قضائيّاً في لبنان.
نقيب سابق للمحامين، قضى أكثر مِن نصف قرن في المحاكم اللبنانيّة، يقول: «لم يحصل أن عاينت حالة مماثلة سابقاً، فالقرار، بعيداً عن تفاصيله وأشخاصه، يستحق أن يكون محور دراسة قانونيّة».
مرّة أخرى، إنّها السياسة القضائيّة، أو القضاء السياسي، في لبنان. كان يُمكن لقاضي التحقيق أن يكتفي بالإشارة إلى «انتفاء صفة المدّعي» أو «عدم اختصاص القضاء اللبناني» (وقد أشار إلى ذلك فعلاً)، لكن مِن دون أن يتورّط في الحديث عن مبدأ «مصلحة الدولة العليا». هذا مبدأ موجود ويُعمل به، في حالة استثنائيّة، لدى كثير مِن دول العالم، لكن في بلد كلبنان، القضاة فيه مِن مكوّنات هذا البلد طائفيّاً وسياسيّاً وحزبيّاً كما نعرفهم، فمَن الذي سيُحدّد أين تكون «مصلحة الدولة العليا» تلك؟ قرار القاضي هذا سيُصبح اجتهاداً، ولاحقاً ربما يُصبح عرفاً، وعندها يصير كلّ قاضٍ، بحسب ميوله الخاصة، هو دولة قائمة بذاتها. ما الذي يمنع؟ لا شيء. أكثر مِن ذلك، كان يُمكن أن تكون المسألة أكثر قبولاً لو صدر القرار (حفظ الأوراق) عن النيابة العامة، المتّصلة عرفاً بالسُلطة السياسيّة إلى حدّ ما. لكن أن يصدر عن قاضي تحقيق، فهذا «أمر مستغرب» (بحسب النقيب السابق). بالمناسبة، أشار القاضي عويدات في قراره إلى أنّ الشكوى المقدّمة لديه أحيلت، بحسب الأصول القانونيّة، إلى النيابة العامة الاستئنافيّة، وذلك «للقيد وإبداء المطالب، فطلبت (النيابة) عدم سماع الدعوى لعدم صفة المدّعي للادعاء، ولعدم اختصاص القضاء اللبناني». إذاً، النيابة العامة هي صاحبة القرار، لكن، وبحسب مصادرها، لم يصدر عنها أيّ إشارة إلى مبدأ «مصلحة الدولة العليا».

رأت النيابة أن لا
صفة للمدّعي ضد السبهان وأن لا اختصاص للقضاء اللبناني!


صاحب الشكوى، الأسير المُحرّر نبيه عواضة، علّق في اتصال مع «الأخبار» قائلاً: «قرار القاضي الذي زجّ بنفسه في السياسة الدوليّة يُشرعن كلّ إساءة بحق لبنان، وبحق رموزه ورؤسائه ومسؤوليه، تصدر لاحقاً مِن أيّ وزير أو دبلوماسي أجنبي، وهذا أخطر ما في الأمر». وأضاف: «أمّا مسألة عدم الصفة، أفلا تكفي صفتي كمواطن لبناني لأكون متضرّراً مِن الوزير السعودي السبهان؟ هذا الأخير الذي غرّد أمام العالم بتغريدات فتنويّة ضدّ لبنان، وبإهانات للشعب اللبناني، بل وتحدّث، بسبب وجود حزب أساسي فيه، عن إعلان حرب». يُنسّق عواضة مع وكيله المحامي حسن بزّي، بحيث سيُقدّم الأخير اعتراضه على القرار اليوم، ضمن المهلة القانونيّة، وبالتالي، فإن القضيّة مستمرة.
ماذا عن فقرة عدم اختصاص القضاء اللبناني في الشكوى؟ لا عواضة ولا وكيله استطاعا فهم هذه الفقرة، لأنّ القرار «جاء غير معلّل. لم يتعرّض مثلاً لاتفاقيّة فيينا، ربّما لأنّ القاضي يعلم أن موقع السبهان غير مشمول بها، وكذلك لا تشمله اجتهادات المحكمة الدوليّة، وبالتالي بقي الردّ لهذا السبب غامضاً. إلى مَن يلجأ المواطن اللبناني إذا كان قضاء بلاده يقول له هذا ليس من اختصاصي!».
قبل نحو خمس سنوات، أخلت القاضية (سابقاً) أليس شبطيني سبيل مُدان بالعمالة للعدو الإسرائيلي. قبل ذلك بعام، كانت قد أخلت، أيضاً، سبيل أربعة عملاء. آنذاك، خرج قضاة وعابوا عليها ذلك، ومنهم من اكتفى بالاستهجان (كسعيد ميرزا)، وذلك لأنّها، وإن كان لها الحق في إخلاء سبيل أحدهم، إلا أنّ الأمر يتعلّق بعمالة للعدو، وهنا أكثر مكان يصحّ فيه العمل بمبدأ «مصلحة الدولة العليا». مرّت قرارات القاضية شبطيني يومها ولم يحصل شيء. في بلادنا، هكذا، قضايا العدو لا يحضر معها مبدأ المصلحة العليا، لكن في قضيّة وزير سعودي، وبطريقة غير مألوفة في الشكل، يحضر المبدأ ويُذاع علناً. الأسبوع الماضي، عندما أهان وزير خارجيّة البحرين القضاء اللبناني، مُحدّداً له كيف عليه أن يعمل (على خلفية الشكوى ضدّ السبهان)، لم يجد مسؤول قضائي كبير حاجة إلى الردّ على ذلك، مكتفياً بالقول: «القضاة عندنا بدهم يشوفوا شغلهم، وألا يلتفتوا إلى ما يُقال هنا أو هناك». ربّما على القضاة اللبنانيين أن يعقدوا اجتماعاً بينهم، ليتّفقوا على ماهية مصلحة الدولة العليا، وأيّ الدول التي «تُبلَع» إهاناتها وأيّها يُستأسد ضدّها، وكذلك تحديد ما إذا كان القضاء سيرّد كل الشكاوى المماثلة أو أنّه سيتبضّع مِنها لاحقاً بما يُناسب. الأهم مِن كل ذلك، أن يُحدّدوا المعايير الضابطة... وَليَحْيَ العدل.