الجزائر | بإعلان سعيد سعدي، أحد أبرز زعماء التيار العلماني في الجزائر، التوقف عن «النضال السياسي»، تكون مسيرة أغلب السياسيين الكبار ممن استمرت مسيرتهم منذ «عهد السريّة» (حين كان النشاط السياسي محظوراً خارج إطار الحزب الواحد)، قد وصلت إلى النهاية، طواعيةً بالنسبة إلى بعضهم أحياناً، أو بسبب دورة الحياة التي فرضت نفسها بالمرض أو الوفاة.
وفي خلال مؤتمر «حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» الخامس، يوم الجمعة، فاجأ سعيد سعدي، المنضوين في الحزب والقياديين بقطع صلاته بالحزب الذي أسسه، وذلك عندما قال: «لست هنا من المؤتمرين ولا حتى من المناضلين منذ هذا اليوم، لأننا لا ننشئ حزباً حتى نمتلكه للأبد. لقد اخترت لنفسي النضال في مجالات أخرى، لكنني سأبقى دائماً محتفظاً بنفس الالتزام الأخلاقي وسأبقى وفياً لذلك إلى آخر يوم».
وتشير كلمات سعدي إلى أنه قرر تطليق السياسة تماماً، بعدما كان قراره في المؤتمر السابق للحزب سنة 2012 «الابتعاد عن القيادة والعودة إلى القواعد كمناضل»، وذلك من أجل أن يهب نفسه كلياً اليوم للعمل التاريخي والثقافي الذي بدأه منذ سنوات بإنتاج عدة كتب تناولت مسيرات شخصيات تاريخية بارزة، مثل العقيد عميروش (أحد أبرز القادة العسكريين في الثورة الجزائرية)، أو ثقافية مثل الفنان شريف خدام (مطرب الأغنية القبائلية)، وهو ما يُفنِّد تماماً بعض الأخبار التي راجت حول احتمال أن يكون مرشحاً للرئاسيات في 2019.
ويُعدُّ زعيم حزب «الأرسيدي» السابق، من أبرز السياسيين في الجزائر خلال فترة ما بعد الاستقلال، إذ برز اسمه مع «نضال الحركة البربرية (الأمازيغية)» في بداية الثمانينيات، ثم امتد مع بداية التعددية الحزبية بعد تأسيسه «الأرسيدي»، الذي وقف بقوة ضد طروحات التيار الإسلامي المهمين على الساحة في ذلك الوقت، وكان له موقف مؤيد لتوقف المسار الانتخابي عام 1992 بعد فوز «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بأغلبية مقاعد البرلمان في الدور الأول.
ويلي الانسحاب الاختياري لسعيد سعدي من الساحة، مغادرة سياسيين آخرين من جيل الكبار، كان آخرهم حسين آيت أحمد، المناضل الكبير في تاريخ «الحركة الوطنية التحريرية» ومؤسس «حزب جبهة القوى الاشتراكية» (أقدم حزب معارض بالجزائر)، وهو الحزب الذي تربى فيه سعيد سعدي نفسه في بداياته قبل أن يُقرّر الانشقاق عنه. وجاء انسحاب حسين آيت أحمد في عام 2011، عندما توجه برسالة إلى «قيادة ومناضلي» حزبه، يقول فيها: «معتقداتي وشغفي ما زالت متّقدةً مثلما كانت عليه في السنوات الأولى لستين سنة من النضال، لكن دورة الحياة تفرض نفسها على الجميع، وأقول لكم إن الوقت حان لتسليم المشعل، ولن أرشح نفسي لرئاسة الحزب في المؤتمر المقبل للحزب». ومضى حسين آيت أحمد على هذه الحالة معتزلاً السياسة، إلى أن وافته المنية في كانون الأول/ ديسمبر 2015، تاركاً وراءه إرثاً سياسياً كبيراً، سواء في الجانب الثوري من مساره أو الجانب السياسي الذي كان فيه أحد أبرز خصوم نظامَي الرئيسين أحمد بن بلة والهواري بومدين.
وفي التيار الإسلامي، شكّل رحيل محفوظ نحناح، في حزيران/ جوان 2003، وهو مؤسس «حركة المجتمع الإسلامي» التي تحوّلت لاحقاً إلى «حركة مجتمع السلم»، علامة فارقة في مسار حزبه الذي تشتت من بعده إلى 4 أحزاب أخرى، وبدا في تلك الفترة أن شخصيته الكاريزماتية هي التي كانت تخفي خلافات أبنائه التي ظهرت لاحقاً. ويمثل نحناح التيار الإخواني في الجزائر، وكان من أنشط السياسيين في فترة السريّة، ثم أسس بعد التعددية حزبه السياسي الذي اختار لنفسه موقعاً مغايراً عن بقية الإسلاميين في فترة الأزمة الأمنية، حيث شارك في الانتخابات الرئاسية عام 1995، ثم انخرط في الحكومة سنة 1997، معللاً ذلك بضرورة الحفاظ على الدولة الجزائرية، والمساعدة على إنهاء فترة العنف والإرهاب. ولا يزال حضور نحناح اليوم قوياً في نقاشات حزبه حتى وهو غائب عنه، حيث غالباً ما يدور الجدل، بشأن مدى التزام «حركة مجتمع السلم» بخط المؤسس.
وكذلك، لم تكن حال اليسار أفضل بعد رحيل وجهه البارز الهاشمي شريف، عام 2005، وهو من مؤسسي «حزب الطليعية الاشتراكية» الذي كان يُمثِّل التيار الشيوعي في الجزائر، ونشط في السريّة زمن الحزب الواحد.

ثمة استثناءات تتمسك بالبقاء برغم انتمائها إلى «جيل القدماء»

ثم أسس بعد ذلك حزب «الحركة الديموقراطية الاجتماعية» التي لا تزال تنشط إلى اليوم. إلا أنّ صوت اليسار بعد اختفاء الهاشمي شريف، من الساحة، ضعف بشكل كبير، ولم يعد له ذلك الحضور القوي في النقاشات الوطنية كما كان يفعل الراحل الذي أثرى الساحة السياسية بالعديد من المصطلحات، وكان من أبرز خصوم التيار الإسلامي.
غير أن ثمة استثناءات، لا تزال متمسكة بالبقاء في الساحة رغم انتمائها إلى جيل السياسيين القدماء، أبرزها لويزة حنون، الأمينة العامة لـ«حزب العمال»، التي ناضلت في السريّة في «المنظمة الاشتراكية للعمل» والتي كانت تمثل التيار التروتسكي، ثم استمرت زمن التعددية في «حزب العمال»، إلى أن أصبحت أمينة عامة له وتجدد انتخابها لخمس مرات، آخرها كان في المؤتمر الاستثنائي الأخير سنة 2016. وتدافع لويزة حنون عن بقائها في سدّة الحزب، كلما سئلت عن ذلك، بالقول إن هذا القرار يعود إلى مناضلي حزبها السيّد في اختياره، وتتحدث عن أن النضال في مفهومها لا بد من أن يبقى مستمراً ما دام صاحبه قادراً على ذلك. كما أن مفهوم تحديد العهدات على رأس الحزب، وفق ما تتحدث به لويزة حنون، ليس أبداً معياراً لقياس الديموقراطية داخل الحزب.
ويبقى حاضراً من جيل القدماء أيضاً، الوجه الإسلامي البارز عبدالله جاب الله، الذي أُعيد انتخابه في المؤتمر الأخير لـ«حزب جبهة العدالة والتنمية»، وهو الحزب الثالث الذي أسسه بعد حزبي «النهضة» ثم «الإصلاح» اللذين أُقيمت فيهما «حركات تصحيحية» أطاحته من على رأس القيادة. وعلى الرغم من بقائه في قيادة حزبه، إلا أن عبدالله جاب الله، أصبح ظهوره السياسي مُقلّاً، بسبب تفرغه للتأليف والكتابة، وفق ما يقول. كما أقعد المرض عن السياسة في هذا التيار، عباسي مدني، رئيس «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي فازت بأول انتخابات برلمانية في الجزائر عام 1991، وهي الانتخابات التي تم إلغاؤها بعد تدخل الجيش. ويُقيم حالياً عباسي في العاصمة القطرية الدوحة بعد سنوات من الإقامة الجبرية في الجزائر.