قبل المقاومة الإسلامية، كان عماد مغنية رفيقاً من الرفاق الذين صعد نجم مطارقهم ومناجلهم في سبعينيات اليسار المزدهرة. اسمه «الرفيق رضوان»، قبل أن يحمل اسمه الحركي الأخير «الحاج رضوان».المقاوم الذي تصدر فتيان ضاحية بيروت الجنوبية طيلة ثلاثة عقود، طرق أيضاً أبواب اليسار الكثيرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يغريه تيار الصحوة الاسلامية.

إلا أنه لم يخالف في سيرته المتقلبة، لا مألوف التجريب بين فقرائها آنذاك، ولا إقبالهم على الانتماء الى أحزاب أو تيارات شتى، يحدوهم ذلك الشوق الى تغيير الدنيا، والتبكير في الثورة والسياسة وغزل الافكار، ماركسية وقومية وإسلامية.
لا يعرف الرفيق «إسماعيل» بدقة اين بدأ الرفيق رضوان مسيرته اليسارية، «لكننا استقطبناه في عام 1977 ضمن حركتنا في الشياح، وكان اسمها الحركة الاشتراكية الثورية في لبنان».
حركة ارتبط اسمها بمرشد شبو الذي نزل ومعه مجموعات من الشباب الشيوعيين ينادون بالكفاح المسلح في قلب بيروت، في ذروة الازدهار المصرفي اللبناني، واقتحموا فرع مصرف «بنك أوف أميركا» خلال حرب تشرين، وتحول شهيداها جهاد أسعد وعلي شعيب الى أيقونتين مقدستين نسج منهما الشاعر عباس بيضون قصيدته الشهيرة «يا علي»، لينشدها مارسيل خليفة وحناجر عربية ولبنانية كثيرة.
الملفت للانتباه في ذاكرة الرفيق «إسماعيل» الذي قاد خلية الحركة الاشتراكية الثورية، التي ضمّت عماد مغنية لعام ونصف، هو رسوخ صورة الفتى الذي كان يحاجج إسلامياً رفاقه الماركسيين في اجتماعات الخلية الحزبية. «قرأنا معاً البيان الشيوعي وأشياء أخرى لا أذكرها، لكنني أذكر أنه كان يقارعنا بما كان يقرأه من كتب السيد محمد باقر الصدر، مثل اقتصادنا وفلسفتنا. كان السيد الصدر، بعد أن أعدمه صدام حسين في بغداد عام ١٩٨٠، أقرب الى الرفيق رضوان من كارل ماركس».
«كان الرفيق رضوان مبادراً من الدرجة الاولى، ومقداماً. وعندما تطلب الأمر اقتحام منزل أحد المنشقين عن جيش لبنان العربي، لاسترداد الاسلحة التي استولى عليها، كان الرفيق رضوان أحد أبرز منفذي الاقتحام»، يقول إسماعيل.
كانت ثانوية الغبيري ساحة عمل تلك الخلية الحزبية. بين مهماتها توزيع نشرة حزب الشعب وكانت تدعى «اليقظة». بعد أن اندمجت الحركة الاشتراكية الثورية بالتنظيم الشعبي الثوري، انبثق من الاثنين حزب الشعب الثوري. انتسب عماد إلى الأخير وهو على مقاعد الدراسة في ثانوية الغبيري. فرض دخول القوات السورية الى لبنان، إبان حرب السنتين، سلوكيات جديدة: «كان الرفيق رضوان يأتي إلى الثانوية مزوّداً من الدكان القريب منها بأكياس فستق ورقية، باستثناء أنه كان يحمل في كيسه قنبلة دفاعية تحسّباً لأي صدام مع مجموعات قريبة من السوريين في ذروة الخلاف معهم».
في ذاكرة رفاق آخرين أوراق أخرى من سيرة يسارية لعماد مغنية لم تكتب بعد، «فالرفيق رضوان كان بدأ بالابتعاد عن حزب الشعب في نهاية عام ١٩٧٨، ولاحظنا ذلك من خلال تخلّفه عن الاجتماعات التي كانت تعقد أحياناً بين أشجار الصنوبر في حرج بيروت، بعيداً عن أعين قوات الردع (السورية) في قلب الضاحية، قبل أن ينتهي اجتماع حزبي صاخب الى فراق بيننا وبينه، رافضاً إعادة بندقية أم ١٦ الى حزب الشعب آنذاك». بعد ثلاثين سنة، اكتشف رفاق عماد في حزب الشعب أن «رفيقهم» رضوان، هو نفسه «الحاج رضوان»، الرجل الذي كانت الاجهزة الاميركية والاسرائيلية تطارده في كل مكان.
المطاردة التي وضعت أوزارها بالشهادة في كفرسوسة، بدأت قبل عقدين وأكثر في الشياح. كان الشهيد عماد مغنية في عين مهداف أجهزة المخابرات الإسرائيلية، والأميركية خصوصاً، منذ أن صعد نجمه في العمل السري.
يلوح شبح مغنية خلف عمليات كثيرة في لبنان ضد القوات المتعددة الجنسية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. كاي بيرت، كاتب «جاسوسنا النبيل في بيروت، قصة حياة جيمس ايمز» الأحدث في هذا المجال. لا يعتقد أن الشهيد مغنية هو من يقف خلف عملية تفجير السفارة الاميركية في بيروت في نيسان ١٩٨٣، وليس أكيداً أنه وراء تفجير قاعدة المارينز التي دمرتها ستة أطنان من المتفجرات في سيارة قادها استشهادي، وكانت حصيلتها أكثر من مئتين وستين قتيلاً من عناصر المارينز.
أما «روبرت بير»، عميل المخابرات الأميركية السابق في لبنان، فيجزم بـ«أن طوابق السفارة الاميركية العشرة تعالت عشرين متراً عندما عبر محمد حسونة، مجنَّد عماد مغنية، بشاحنته الانتحارية قاعة الاستقبال، قبل أن تهوي أشلاءً، دماً وركاماً».
ففي كتابه «سقوط السي آي إي» عام 2001، يروي «بير» المحاولة الأولى لاغتيال مغنية في نهاية الثمانينيات، «عابراً خطوط القتال، حتى غاليري سمعان، بحماية الميليشيا المحلية في القطاع الشرقي، للقاء عصام، العميل القادم من الضاحية الجنوبية: عماد مغنية هو الرجل الذي أريده... عصام، تفرّس في ملامحي قبل أن يستدير نحو مرافقي جان «هل هو جدي؟ طأطأ جان برأسه، أريد ألفي دولار مقدماً، وألف دولار بعد التنفيذ، قال عصام. أريده حياً ــ ابحث إذاً عن رجل آخر. أسبوع عاد بعدها الرجل بصور للمدرسة الدينية التي كان يأتيها مغنية مرة في الأسبوع، كي ينام فيها، «لم يعد لمغنية مرقد دائم، فإلى جانب السي آي إي، وحشود المخابرات التي تتعقبه، ما كان مسموحاً له بأن يبيت ليليتن متتاليتين في سرير واحد. وتحت السقف نفسه كان يخرج من الأبواب الخلفية على الدوام، ولا يكرر الصعود ظهراً في سيارة الصباح». «هل بوسعك أن تختطفه»؟ «لقد قلت لك، بوسعي أن أقتله، وإذا كنت تتصور أنني سأخطفه، فأنت مخطئ. هناك مكان خلف المدرسة لوضع سيارة مفخخة، وأخرى أمامها، ولدي ألف كيلو من السمتكس، لحل المشكلة، وأريد ألفي دولار مقدماً وعشرين ألفاً بعد قتل مغنية».
في «الدفاتر الحميمة للمخابرات الفرنسية»، فصل من التعاون في الحرب ضد الإرهاب مع عماد مغنية. الأميركيون «الذين كانت ثقتهم بنا نسبية، قرروا اختبارنا في عملية مشتركة ضد عماد مغنية»؛ ففي يوم من أيام 1987 نقلت المخابرات المركزية رسالة مباشرة إلى الرئيس فرانسوا ميتران، وشديدة الاختصار: عماد مغنية، قائد أوركسترا حزب الله للتفجيرات، سيعبر في أحد المطارات الفرنسية. شكراً لاعتقالكم إياه»، كما يروي مدير المخابرات الفرنسية الأسبق ريمي بوتريل. «ميتران نقل الرسالة إلى وزير الداخلية بيار جوكس، ومنه إلى جهاز ألـ«دي أس تي»، لكن جوكس رفض، «وبدلاً من اعتقال الإرهابي الذي يبحث العالم كله عنه، أعلمناه بأن هناك من يرصد تحركاته وخططه عن قرب، طمعاً بأن يعترف الإيرانيون بهذا الجميل بطريقة أو بأخرى».