في 4 تشرين الثاني الماضي، ومنذُ اللحظة التي أطلّ بها رئيس الحكومة سعد الحريري مُعلناً استقالته من الرياض، ظهرت عوامل جديدة في المشهد اللبناني. هي لحظة قيلَ فيها وعنها الكثير، لما حمَلتهُ من ألغاز وإشارات ارتبطت ــ بعيداً عن أي شيء ــ بعلاقة الحريري الشخصية بالسعودية. فمِن قبل أن تحطّ طائرته الخاصة في بيروت في 21 من الشهر نفسه، تبيّن أن ما أقدمَ عليه السعوديون لم يكُن سوء تصرّف منهم، ولا مجرّد ردّ فعل متهوّر من جانبهم على سياسة الحريري في الداخل اللبناني.
هي خطوة متعمّدة، دلّت على خلل كبير أصاب الطابع الاستراتيجي للعلاقة بين الاثنين. وبعد عودته من فترة الاحتجاز، ثبّت الحريري هذا الانطباع حين لم يأتِ على ذكر «مملكة الخير» لا من قريب ولا من بعيد خلال إطلالته الأولى من منزله في وادي أبو جميل، على بعد مسافة رحلة قصيرة من بعبدا قرر خلالها طيّ صفحة الاستقالة والانضواء مجدداً تحت سقف التسوية التي أعادته إلى السراي وثبّتت ميشال عون رئيساً للجمهورية. لم يكتف الحريري بذلك، بل تراجع سقف هجومه على حزب الله إلى حدّ اعتباره عامل استقرار، يُضاف إليه عدم تسجيل أي اتصال رسمي بينه وبين القيادة السعودية، وعدم قيامه بأيّ زيارة للمملكة طيلة الفترة الماضية، ما يؤكد وجود قطيعة سعودية له.

الأميركيون: الحرب بين لبنان وإسرائيل باتت أقرب من أيّ وقت مضى


حتى الآن، لم تظهَر أي بوادر لإعادة الأمور إلى نصابها، رُغم دخول أطراف عربية على خطّ الوساطة. فقد علمت «الأخبار» من مصادر مُطّلعة أن «مصر، وبالتنسيق مع كل من الإمارات والكويت، عملت على تصحيح الخلل بين الحريري والأمير محمد بن سلمان، الا أن الأخير رفض المبادرة». غير أن مصادر عربية معنية نفت هذه المعلومة، مُشيرة إلى أن «الأهم بالنسبة الى مصر والكويت والإمارات ليس الوساطة، بل توقيتها»، مشيرة إلى أن «الجانب السعودي لم يُعطِ أي إشارات تشجّع على إجراء وساطة، وبالتالي فإن أي محاولة من أيّ جهة للتدخل، ستكون محكومة بالفشل».
لكن الحريري، ورغم محاصرته من قبل المملكة مالياً وسياسياً، يتحرّك بهامش أكبر نتيجة علاقته بالولايات المتحدة الأميركية، التي شهِدت تحسّناً تدريجياً منذ لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. وينسب البعض إلى الحريري أن الدعم الأميركي الذي يلقاه يشكّل ضمانة لعدم انهيارعلاقته بالرياض بشكل دراماتيكي، لا سيما في حال وجد الأميركيون مصلحة في إعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين السعوديين، وقرّروا التدخل مباشرة بشكل لا تستطيع المملكة معاكسته، كما حصل حين وبّخت الولايات المتحدّة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، وضغطت عليه لوقف تغريداته الاستفزازية تجاه لبنان، خلال فترة أزمة الاستقالة وبعدها.
في هذا الإطار، أكّدت شخصية لبنانية مقرّبة من الدوائر الأميركية «استمرار دعم الإدارة الأميركية لرئيس الحكومة اللبنانية، لأنها ترى فيه عامل اعتدال واستقرار»، وأن «هذا الدعم تحرص عليه شخصيات رسمية أميركية تربطها بالحريري علاقات صداقة، منها نائب مساعد وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد الذي وصل إلى بيروت أول من أمس، والتقى الحريري على الفور». وقد وضعت الشخصية اللبنانية زيارة ساترفيلد في إطار «استطلاع رأي مسؤولين لبنانيين، على رأسهم الحريري، حول عدّة أمور، لا تتعلّق فقط بالجدار الإسمنتي الذي تعتزِم إسرائيل بناءه، ولا البلوك رقم 9 الذي ادّعت مُلكيته»، بل إن الأهم من هذين الملفين هو «التوضيحات التي سيطلبها المسؤول الأميركي عن بعض تصريحات الحريري بشأن حزب الله، والتأكيد على صياغة علاقة مع إدارة ترامب متحدة لمواجهة ضغط الكونغرس باتجاه تخفيض أو قطع المساعدات عن لبنان» .
ونقلاً عن الدوائر نفسها، تقول الشخصية اللبنانية إن «سياسة الأميركيين تجاه المنطقة تغيّرت عمّا كانت عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما»، لذا «سيستفسر الضيف الأميركي من المسؤولين اللبنانيين عن مدى قابلية الإدارة اللبنانية على التفاعل مع خطّة التضييق التي تتبعها الإدارة الأميركية ضد الحزب، خصوصاً أنها لمست أن العقوبات المالية بدأت تؤتي ثمارها» على حدّ تعبيرها. وبحسب هذه الشخصية «سيربُط الزائر الأميركي التعاون اللبناني بالمساعدات الأميركية، التي وصلت في عام 2017 إلى حوالى 383 مليون دولار (مساعدات إنمائية واجتماعية وتربوية ودفاعية)، إضافة إلى 250 مليون دولار إلى قوات الطوارئ العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل)، من باب أن توقيف هذه المساعدات سيهزّ الاستقرار في لبنان».
وعطفاً على التهديدات الأمنية المُتصاعدة من الجانب الإسرائيلي، أكدت هذه الشخصية أن «الأميركيين يرفضون حصول أي احتكاك لبناني ــ إسرائيلي»، لكنهم «في محادثاتهم مع الجانب اللبناني سينقلون رسائل عدّة كانوا قد تلقّوها من الإسرائيليين بأن الحرب مع لبنان باتت أقرب من أي وقت مضى»، لأن «قواعد اللعبة التي أدت إلى المحافظة على الهدوء والاستقرار على جانبي الحدود منذ عام 2006 قد سقطَت، وأن الإسرائيلي بات يعتبر حزب الله تهديداً وجودياً له نتيجة تعاظم قوّته، وهو جادّ في تهديداته تجاه لبنان، ويرى أن اللحظة الإقليمية والدولية مؤاتية له، وربما لن تتكرّر في السنوات المقبلة». وأشارت أنهم سيطلبون أيضاً توضيحات من «الجهات اللبنانية الرسمية عن حقيقة محاولات إيران بناء مصانع أسلحة وصواريخ في لبنان»، لأن «وجودها سيكون الحجّة التي ستستخدِمها إسرائيل لفتح المعركة، ولن يكون بالإمكان ردعها»، على حدّ تعبير الشخصية اللبنانية نفسها!