منذ خمس سنوات، تواصل إسرائيل اعتداءاتها في الساحة السورية، ترجمة لاستراتيجية «المعركة بين الحروب» التي تقول إنها تهدف إلى منع تعاظم قدرات حزب الله النوعية التي تؤدي إلى تعزيز قدراته الردعية والدفاعية والهجومية. ومع أن إسرائيل نفذت خلال هذه الفترة عشرات الهجمات، إلا أن حصيلتها الاجمالية لم تكن وفق ما كانت تأمله من نتائج، وهو ما انعكس في تقارير الخبراء والمعلقين في تل أبيب، ودفع القادة الإسرائيليين إلى توجيه المزيد من الرسائل والتهديدات في اتجاهات متعددة.
مع أن الاعتداء في جمرايا هو امتداد لسياسة عدوانية محدَّدة الأهداف، ومستندة إلى رهانات وتقديرات تتصل بالواقع الذي استجد في الساحة السورية منذ مطلع عام 2011، إلا أن ذلك لا يعني، بالضرورة، أن رسائله هي نفسها التي انطوت عليها الاعتداءات السابقة. ويعود ذلك إلى أن الساحة السورية والاقليمية مرت بمحطات مفصلية تغيّرت معها الرهانات والتقديرات الإسرائيلية، إزاء المستقبل المنظور والبعيد.
في السابق، كانت الضربات مقرونة برهان كبير جداً، وصل في مراحل محدَّدة إلى حد القطع، على سقوط الرئيس بشار الأسد في نهاية المطاف. ونتيجة ذلك، كانوا يأملون في تل أبيب، ويقدرون، أنه سيتم في نهاية المطاف استبدال النظام السوري بآخر حليف للمعسكر الغربي ومعاد للمقاومة. على هذه الخلفية، كانت الضربات تتم بهدف الحؤول دون تطور قدرات حزب الله ومحور المقاومة، قدر الامكان، قبل تبلور البيئة الاقليمية التي تسمح بالانقضاض على المقاومة في لبنان. أما الآن، فتستمر الاعتداءات نفسها، تقريباً، بعدما سلكت التطورات مسارات لم تكن تخطر على بال أجهزة القرار والتقدير الاستخباري والسياسي في تل أبيب. الواقع الجديد في الساحتين السورية والاقليمية وضع الإسرائيلي أمام محطة مفصلية تفرض عليه إعادة تقويم السياسة العملانية التي يتبعها، لما قد يترتب على ذلك من خيارات، تتراوح بين الاستمرار في الوتيرة نفسها، وصولاً إلى الارتقاء نحو مستويات جديدة من الاعتداءات، لكن من الواضح أن القلق والتردد ما زالا هما المهيمنين على حسابات صنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب. ويبقى السؤال الذي من الواضح أن تل أبيب لا تملك الإجابة الحاسمة عنه، ما هي خيارات إسرائيل على الساحة السورية، عندما تكتشف مجدداً أن خياراتها ورهاناتها لم تحقق ما كانت تأمل وتسعى اليه؟
ليس صدفة هذا التزامن بين اعتداء جمرايا والمنسوب المرتفع جداً من التهديدات التي توالى على إطلاقها كبار المسؤولين الإسرائيليين. ويعود ذلك، من ضمن اعتبارات أخرى، إلى أنّ التقدير السائد في تل أبيب هو أن كل ضربة إسرائيلية في الساحة السورية باتت تنطوي على احتمالات التطور نحو تصعيد ما، أكثر من أي وقت مضى، وان تكرار عدم جبي أثمان مؤلمة من الإسرائيلي – يتجاوز عمليات الاعتراض للصواريخ ــ لا يعني بالضرورة أن ذلك سيتواصل الى أمد غير منظور. نتيجة هذه المخاوف التي تم التعبير عنها في أكثر من مناسبة، يحاول الإسرائيلي عبر هذه التهديدات تعزيز قدرة ردعه بهدف المحافظة على هامش حريته في المبادرة العملانية في الساحة السورية. ويستند هذا التقدير ــ المخاوف، الى الانتصارات التي حققها محور المقاومة في الساحة السورية، وما قد يترتب عليها – ولو لاحقاً – من خيارات تلجأ اليها الدولة السورية ومعها محور المقاومة. ويدركون في تل أبيب أن هناك العديد من الخيارات العملانية القادرة على حشر المؤسسة الإسرائيلية، ولا يبعد أنهم يرجحون بدرجة كبيرة أن هذا الأمر سيحدث في محطة ما، وهو ما سيضع الجميع أمام منعطف مفصلي.
صحيح أن اعتداء جمرايا أتى بعد زيارة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، على رأس وفد أمني رفيع، لموسكو، لكن ذلك لا يعني أن هذه الخطوة كانت تمهيداً له. نعم، يصح القول إن زيارة الوفد الإسرائيلي تتصل بمجمل المرحلة التي تلي، ونتيجة إدراك تل أبيب لحاجتها إلى استشراف الموقف الروسي من الخيارات التي تمهّد لها، استمراراً أو تصاعداً، بل ومحاولة انتزاع تفهّم روسي ما. من هذه الزاوية، تحديداً، يصح وضع اعتداء جمرايا ضمن هذا الإطار الواسع، باعتباره محطة في سياق اعتداءات ما بعد فشل الرهانات على إضعاف حزب الله، فضلاً عن القضاء عليه. ومن هنا، أيضاً، الواضح أن الساحة السورية ستشهد المزيد من الاعتداءات التي قد تشهد مسارات تصاعدية في الساحة السورية، خلال المرحلة المقبلة.
مع أن اعتداءاتها المتواصلة لم تنجح في فرضها كطرف أساسي في محاولات اجتراح حل سياسي، لكن تل أبيب لم تُخفِ أن ما يهمها في كل الصيغ المطروحة هو أن لا تكون الساحة السورية قاعدة لمحور المقاومة، وجزءاً من معادلة الردع الاقليمي في إطار الصراع مع إسرائيل. وتراهن في هذا المجال على التباين بين أولويات محور المقاومة وأولويات موسكو، اللذين يجمعهما الموقف من الارهاب ومكافحته لاستئصاله من الساحة السورية، فيما يختلف الطرفان في الموقف من الصراع مع إسرائيل. ومع أنهم أدركوا في تل أبيب المبالغة التي تورطوا فيها في الرهان على مفاعيل هذا التباين، ضمن المدى المنظور، إلا أن القرار الاستراتيجي ما زال متمسّكاً بخيار تعميق الاتصالات مع موسكو، ما دامت الولايات المتحدة منكفئة عن التورط العسكري المباشر الواسع بما يؤدي إلى إعادة تغيير موازين القوى في الساحتين السورية والاقليمية. وتأمل تل أبيب أن تتمكن من تثمير الفرص الكامنة في هذه الاتصالات، على الأقل، بما يحول دون إرباك حركة السلاح الجو في اعتداءاته على الساحة السورية.
بعد كل هذه السنوات من الاعتداءات الموضعية في الساحة السورية، ونتيجة تبدّد كل الرهانات السابقة، تجد تل أيبب نفسها تتحرك بين حدّين: القلق من تطور ميداني يؤدي إلى تصعيد لا تريده ولا تسعى اليه، ومن فشل يكتشف نتنياهو، لاحقاً، أن القوس الشمالي الذي حذَّر منه بات حقيقة قائمة.