لم يكن أحدٌ يتوقع أن تحلّ مشكلة النفايات المزمنة، بعد مرور أكثر من سنة على انطلاقة العهد والحكومة الجديدة. ولكن في فترة سنة، كان يمكن أن تتم بلورة استراتيجية شاملة وعادلة ووضع المبادئ والأسس والرؤية لكيفية حل هذه المشكلة على المدى البعيد. بالإضافة إلى إجراء مراجعة للخطة الطارئة وكيفية تحسينها وتحصينها وتنقيتها من الشوائب ومحاسبة المخالفين لشروطها... ولو كانت في غاية السلبية. كما كان يمكن البدء بإجراءات تخفيفية (كنا اقترحناها لتطعيم الخطة الطارئة) يمكن أن تصبّ في الأهداف الاستراتيجية.
لم يحمل أحد وزارة البيئة وحدها كل أحمال ومسؤولية التعثر الكبير في إدارة هذا الملف، ولكنها كانت قادرة على أن تبلور هذه الاستراتيجية، بكونها من صلاحياتها الأساسية. فكيف تعاملت مع الموضوع؟
أخذ الوزير طارق الخطيب وقتاً طويلاً نسبياً للاطلاع على الملفات وبينها هذا الملف الناري الملح (وهذه إشكالية تتعلق أيضاً بمشكلة عميقة في الكتل السياسية وكيفية اختيار الحقائب سبق أن تحدثنا عنها). كما أخذ وقتاً لاختيار مستشاريه، ولم يقدّر جيداً مدى تأثير الوضع المأزوم في وزارة البيئة نفسها، بالرغم من التحذيرات، الذي كان يفترض معالجته كعدة أساسية للعمل. فكيف لوزارة البيئة أن تعالج ملفات في غاية الحساسية والخطورة وتتعلق بالبيئة اللبنانية وتؤتمن على ديمومة الموارد وعلى أسس ومقومات الحياة، إذا لم تكن في بنيتها قوية ومتماسكة ولديها استراتيجيتها وتعرف كيف تتعامل مع الملفات؟ كيف لوزارة البيئة أن تعمل وهناك مشكلة مزمنة بين مديرها العام وأكثرية الموظفين، لم ينجح الوزراء السابقون (لا سيما آخر ثلاثة وزراء) في حلّها؟!
منذ وصول الوزير الخطيب إلى الوزارة، استمع إلى الكل وإلى شكاوى الكل من الكل. وقد تصرف (في العلن على الأقل) وكأنه لم يعد يثق بأحد، فاستعان بمستشارين من دون خبرة من خارج الوزارة! وقد أصدر تعميماً داخلياً إلى جميع الوحدات في الوزارة للتعامل مع لجنة استشارية مؤلفة من 6 أشخاص بتاريخ 22/1/2017، لم ينجحوا في تشكيل فريق عمل منسجم يعوّض عن قلة خبرتهم، كما لم يطلبوا الاستعانة بمن يعرف أكثر (يُقال إن أكثر من نصفهم لم يعد يأتي إلى الوزارة) مما زاد الوضع إرباكاً وتردّداً… لكي لا نقول فوضوية. ساهم ذلك، بالإضافة إلى التدخلات مع الوزير من قيادات التيار الذي ينتمي إليه، كما يقال، في زيادة الإرباك في اتخاذ القرارات، ما انعكس سلباً في الإنتاج ولا سيما في موضوع استراتيجية النفايات.
لا نعرف إذا كان تعثر وزير البيئة في إدارة الملفات بسبب تأخره أو تعثره في اختيار مستشاريه، أم هناك أسباب أخرى. ولكن ما نستطيع الجزم به أن هناك تعثراً، انعكس في إدارة الملفات بشكل عام وفي ملف النفايات المتشعب والمعقد بشكل خاص.
كان يمكن للوزير أن يستفيد من المساعدة التي عُرضت عليه من الأمم المتحدة للبيئة من أجل وضع استراتيجية. إلا أن اختيار أحد من قبله (الوزارة) للتنسيق تأخر، ولم يحصل الموضوع على الاهتمام الذي يستحق من الوزارة والوزير (نتحدث لاحقاً عن هذا الموضوع). لا بل، لم يشرك فريق الأمم المتحدة للبيئة بالمشاريع الكثيرة التي كان يحضر لها مستشاروه وآخرون (سريّون) في الوزارة، بين «رؤية» و»سياسات» و»خطة مرحلية ومؤقتة»... حتى صدرت هذه كلها مع بعضها أو قبل بعضها (مع ما فيها من تناقضات وضعف وتشويش في الرؤية) من دون تنسيق للعاملين فيها فيما بينهم أيضاً. وهذا ما يفسّر أنها كلها جاءت مبتورة وغير شاملة، (بالرغم من كبر حجمها) وتفتقد إلى المنهجية المتكاملة. صحيح أن الوقت كان ضاغطاً، إلا أن المشكلة كانت في الإرباكات وقلة الخبرة والتنسيق، أكثر من أي شيء آخر. بالإضافة إلى الإرباكات في الاستعانة ببعض الخبرات التي لا تحب النقاش وتريد أن تبقى في الظل لأسباب كثيرة ليست حميدة في معظمها. تعددية الآراء غير المكتملة والناضجة وتناقضات المستشارين، أدت إلى تناقض وفوضى في المتابعة، لا سيما في مخرجات اللجنة الوزارية التي كان يشارك فيها الوزير حول هذا الملف. فالملاحظات الأولية التي وجهتها وزارة البيئة في 3/3/2017 إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، حول مسودة دفتر شروط مركز التحويل الحراري (المحارق)، كما كشفنا في حينها في «الأخبار» في 10/3/ 2017 كانت في مضمونها تنسف مشروع المحارق. فما الذي حصل بعد ذلك ليتم تبني هذا الخيار في مجلس الوزراء والموافقة عليه من قبل وزارة البيئة؟! كما كانت هذه الأخيرة اقترحت أفكار مختلفة (عن فكرة توسيع المطامر الشاطئية السيئة الذكر) حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية والطارئة، ثم عادت وقبلت ودافعت عن خيار التوسيع... ما يعكس حجم الإرباك وضعف «الرؤية» التي كانت قد رفعتها إلى مجلس الوزراء أيضاً!
وإذ لا حاجة للمزيد من الشواهد على حال الإرباك والتعثر، التي ظهرت ذروتها مؤخراً في طريقة برهان أن النفايات التي ظهرت على الشاطئ هي من مكب على ضفة نهر وليست من مكب على ضفة بحر، وفي الادعاء على بلدية واحدة (إذا كانت هي فعلاً المسؤولة) مباشرة بعد صدور تقرير عن الوزارة نفسها يقول بوجود ما يقارب الألف مكب عشوائي في لبنان... يصبح السؤال عن ما بعد هذا التعثر ملحّاً وضرورياً، قبل فوات الأوان.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]